صَحافيّات سوريّات "رَبِحن الحَرب": هذا ما عايَشْناه نَحوَ "حُرّية تَسْتَحِق"

وَهَل تَربَح النّساء الحُروبَ أو يَربحنَ في الحُروب؟ هي قِصص ثلاث سيّداتٍ ألهَمْنَ ميس قات

[i] للبدء بمشروعها "نِساء رَبِحن الحَرب": رزان زيتونة، المحامية الشّرسة في الدفاع عن حقوق الإنسان التي اختفت في دوما -ولا تزال- وهي توثّق تفاصيل الانتهاكات أثناء الحصار على الغوطة. والنّسوية لبنى قَنَواتي، التي نَجَت من الهجوم الكيماوي الذي شنّه نظام الأسد على الغوطة، ووصلت بعد هجراتٍ متكرّرة إلى فرنسا لتشارك في تأسيس "النساء الآن لأجل التّنمية"، والصّحافية حَنين السيّد التي التَقَتها منصّة “فارءه معاي”؛ صحافيّة تعيش في شمال سوريا، في منطقة يُسَيطر عليها المتشدّدون، تَهجَّرت أكثر من مرّة وعاشت الثّورة والنُزوح والّلجوء.

تحدّثت ميس لـ “فارءه معاي” عن مَشروع "نِساء رَبِحن الحَرب" وقالت: “هو مُجتَمَع رَقَمي للسوريّات والنّاطقات بالعربيّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نَفْتَح من خلاله آفاقًا جديدة للعمل، لتكون منصّة تُقدِّم سرديّات النساء في مناطق النّزاع من وجهة نظر نسويّة، لأنّ الحروب تَعمل على تَنميط مُعاناتهن، وتَحْصُرهنّ في خانة الضّحايا بصفتهن زوجات الأبطال أو القتلى وأمّهاتهم وبناتهم. يُوفّر "نِساء رَبِحن الحَرب" المساحات لتَسرد النساء قصصهنّ بِطُرق مختلفة".

يقدّم مشروع "نِساء رَبحِن الحَرب" الدّعم والتّدريب والمرافَقة للصحافيات في مناطق النزاع -الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على وجه الخصوص- ليتمكَّنّ من سَرد القصص وتصويرها بعين نَسَوية. وفي سورية بَعدَ سقوط النظام دخَلت تلك النّسوة السوريات منتصرات بما أنجزنه وحقّقنه بعيدًا عن الخوف والتّخوين، وبدأن بنشر عملهنّ وتنظيم التدريبات وعقد اللقاءات في العاصمة. تواصلتُ مع عدد من الصحافيات السوريات اللواتي ربَحِن الحرب مِن دمشق ليتحدّثن عن تجربتهنّ الفريدة.

"الحَرب أخذت منّا الكثير، لكنّها صَنَعت مِنّا نساء لا يُقهَرن"

"عندما بدأت الثورة، لم يكن لديَّ خيار سوى أن أكون جزءًا منها، ليس فقط كصحافية، بل كسوريّة تَرفض الظُلم"، هكذا تحدّثت الصحافية حنين السيّد لـ "فارءه معاي"، وقالت:

 "في البداية، لم أكن أُدرك حجم المَخاطر التي سأواجهها، لكن مع الوقت، أصبح واضحًا أن العمل الصحافي في ظلّ حربٍ ونظامٍ قمعي ليس مجّرد مهنة، بل معركة بحدّ ذاتها. العمل الصحافي في سوريا لم يكن يومًا سهلًا، لكنّه في ظلّ الحرب أصبح ضربًا من الجُنون. كان علينا أن نخفي هوياتنا، نستخدم أسماء مستعارة، وننتقل بسريّة من مكان إلى آخر. كنّا نواجه تهديدات يوميّة من نظام الأسد، ومن مجتمع لم يكن معتادًا على رؤية النساء في ساحات التّغطية، لكن الإصرار على كَشف الحقيقة، وعلى توثيق الجرائم والانتهاكات، كان أقوى من أيّ تهديد".

ساعَدَ حنين على متابعة مسيرتها الدّعم الأُسري وشبكة الصحافيات/ ين التي تشكّلت أثناء الثورة السوريّة، تقول: "كُنّا نحمي بعضنا، نتبادل المعلومات، وندعم بعضنا نفسيًا. وفَتَح لنا وجود منصات إعلامية مستقلة المجال لإيصال أصواتنا، مثل الشبكات المحلية التي نشأت داخل سوريا وخارجها. كان الإنترنت سلاحًا قويًا، رغم انقطاعاته المتكررة، فقد مكّننا من نَشْر الحقيقة حتى عندما حاول الجميع إسكاتَنا".

أما عن المَخاطر التي لا حدود لها، فقالت: "كان الخَطَر في كلّ زاوية. يريدُ النظام تصفيتنا، واعتقالنا وقصف مواقعنا وبلداتنا، ويرى المجتَمع أن مكان المرأة في المنزل وليس في ساحات التغطيات الإعلامية. لم يكن سهلًا أن نحارِب على كلّ هذه الجبهات، نواجه الرّقابة، والاعتقال، والتهديدات".

في جُعبة حنين العديد من النصائح للصحافيات السوريات خاصّة وجميع الصحافيات اللواتي يكتبن أثناء الثورات والنزاعات والحروب: "السلامة الشخصيّة قبل أيّ شيء. لا توجد قصّة تستحقّ أن تخسري حياتك من أجلها. تعلّمي تقنيات الحماية الرقميّة، وتأكّدي من أنّ لديك خطة أمان في حال اضطررتِ للفرار، لا تعملي وحدك، احرصي على أن يكون لديكِ شبكة دعم من صحافيات وصحافيين تثقين بهم. وأخيرًا، لا تَدَعي الخوف يوقفكِ، لكن أيضًا لا تكوني مُتهوّرة. الصحافة في الحرب هي معركة ذكيّة، والبقاء على قيد الحياة هو الانتصار الأول، الحرب أخذت منّا الكثير، لكنّها صنعت منّا نساء لا يُقهَرن".

"ثَمَن الحرّية كبير جدًّا، لكنّه يستحق ذلك"

"منذ بداية الثورة السوريّة كان قراري واضحًا وضوح الصّوت الذي هتفت به حناجر المتظاهرين والمتظاهرات الأوائل، إنها الحريّة التي أحلُم بها وسأكون حتمًا معها"، بهذه الكلمات بدأت الصحافية السورية نوار المير علي استعادة تجربتها، وأضافت: "لا يمكنني نسيان المرّة الأولى التي صَرَختُ فيها "حرية" في أول مظاهرة شاركت فيها في مدينة دمشق".

نوار المير علي

وكصحافية مقيمة في سوريا، عملت نُوار على توثيق ما يَحدث ونَقل القصص السورية للعالم، طارَدَتها المخاوف الأمنية التي كانت كبيرة جدًا فكان عليها التخفيّ دوما ًخلف الأسماء المستعارة، وتقنيّات الأمن الرقمي.

العقبات التي واجَهضت الصحافيات والصحافيين العاملين في مناطق سيطرة النظام الساقط كبيرة جدًا، حيث يسيطر فيها الخوف على مَفاصل الحياة، وعن ذلك تقول المير علَي: "أوّل العقبات صعوبة الحُصول على معلومات، ورهبة الناس من الكلام، وصعوبة التقاط صورة واضحة دون الخوف من الاعتقال. لكن أبرز العَقَبات تمثّل في صعوبة التواجد على خطوط المعارك الأولى".

من جانب آخر، امتلكت  الصحافيات القدرة على تغطية قضايا النساء السوريات اللواتي كنّ من الفئات الأكثر تضررًا خلال سنوات الحرب، ووصولهنّ لمجتمعات يبدو من الصعب على الصحافيين الرجال الوصول إليها.

هذا ما أكدته المير علي، قائلة: "أقول للصحافيات اللواتي يعشن حروبًا ونزاعات: كُنّ شُجاعات، ثمن الحريّة كبير جدًّا لكنّه يستحق ذلك".

الثّبات على موقف الحقّ

"منذ بداية الثورة، كنتُ قلبيًا معها ومؤيّدة لها بالرغم من أنني لم أشارك بأيّ نشاط خلالها، وعند دخولي كليّة الإعلام في جامعة دمشق، ومع تقدّم السنوات قرّرتُ أنني لن أعمل مع أيّ وسيلة تابعة للنظام أو الحكومة رسميًا أو ضمنيًا، هذا كان أول تحدٍّ لين إلى أن تعرّفت على من هنّ مثلي وعملنا معًا"، بهذه الكلمات تبدأ منار أبو حسون من السويداء الحديث عن تجربتها، وتتابع: "العامل الرئيس الذي جَعَلني أدخل مجال الصحافة والتدريبات هو منظَّمات المجتمع المدني التي أعطتني مساحة للتعلّم والعمل والكتابة، وبعدها بدأت بتوسيع علاقاتي لأعمل في مؤسّسة مستقلة، ووجود مؤسسات مستقلة هو أيضًا فرصة في سوريا".

وتضيف أبو حسون: "بالنسبة للعقبات فهي كثيرة، أهمّها المخاوف الأمنيّة، ما أجبرني على استخدام أسماء مستعارة والعمل على مواضيع آمنة نوعًا ما كمواضيع المرأة والطفل، وبالطبع يُشكل الوضع المعيشيّ والخَدَميّ عائقًا كبيرًا في العمل مع تتالي الأزمات إثر استمرار النزاع".

تنصَح مَنار الصحافيات العاملات في ظروف الحروب والنزاعات والثورات الحفاظ على سلامتهن بالدرجة الأولى سواء جسديًا أو رَقَميًا، والحفاظ على الاستقلال قدر الإمكان لممارسة الصحافة والإعلام بمهنيّة، والانتباه جيّدًا للجهة التي يَعملن معها؛ مَن هي؟ ومَن الممول؟ وهل بيئة العمل مريحة وكريمة وتراعي خصوصيتهن كنساء أو أمهات؟ وبالطبع استمرار التدريب والتعلّم والثبات على موقف الحقّ، حتى لو كان صعبًا".

السوريات الصحافيات اللواتي عَمِلن في ظروفٍ وضعها نظام القهر والمخابرات والاعتقال والموت، أَقلّ ما يمكن أن نقول بحقّهن أنهنّ فعلًا رَبِحنَ الحَرب في أولى جولاتها، لكنّ حروب النساء للوصول إلى حقوقهن مسيرةٌ طويلة.


[i] تعريف: ميس قات هي صحافية استقصائية مستقلة من سوريا ومقيمة حاليًا في هولندا، وغطّت الحرب على مدار أكثر من 10 سنوات، وباعتبارها زميلة في زمالة جيم هوج لإعداد التقارير، التابعة للمركز الدولي للصحافيين، كتبت عن حياة ثلاث صحافيات سوريات قدّمن تغطيات عن الحرب الأهلية.

المحامية رهادة عبدوش

محامية وكاتبة وناشطة في قضايا المرأة وحقوق الطفل والمعاق وقضايا الإعلام، تعيش في دمشق.

 

رأيك يهمنا