يَوم المَرأة الغزّاوية العالَمي!

عادةً، تَزهو المرأة الغزّاوية في شهر آذار/ مارس كلّ عام، فهو شَهرها الذي تَحصد فيه ثِمار ما تَغرسه في عائلتها ومجتمعها طوال العام رغم المُنَغّصات الحياتية التي تُكابِدها من ضغوط اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية.
لكنّ شَهرها مُختلِف هذا العام، فقد وَضَعت الحَرب أوزارها بعد 15 شهرًا [في صيغة هُدنة هشّة]، قاسَت خلالها الويلات مِن ألم الفقد والجوع والنّزوح والاعتقال والخَوف والهَلع وكلّ المُرادفات اللانسانية التي اختبرتها في فترة تَعتَبرها ذاكرتُها الأكثر وجعًا وتحديًّا لكلّ تناقضات الحياة.
المرأة الغزّاوية هي رمز للصمود والقوة في مواجهة الحروب والمعاناة، وهي رغم كلّ ما تمرّ به من تحديات، تظل صامدةً وقويّة، تتحمل ضغوط الحرب، وتستَمر في العيش بقوّة لا يعرفها غيرها، فهي مَن خَرَجت من بيتها مُجبَرة بعدما قُصف وتحوّل إلى ركام قضى على كلّ تفاصيل مملكتها وذكرياتها مع العائلة لتَصحبهم باحثة عن الأمان في خيمة متواضعة بعيدًا عن القصف والدمار.
مُلاحظة: الثامن من آذار/ مارس هو يوم المرأة العالمي، لكّنه هذا العام يخصّ الغزّاوية وَحدها، فَهي الأكثر استحقاقًا له. أما الحادي والعشرين من آذار/ مارس "يوم الأُم" فربما تودّ الغزّاوية لو تَمحوه، علّها تخفّف من وَجَعها، فهي لا تريد أن تستذكر ضُمة الوَرد الأولى أو قَلَم الروج؛ أولى هداياها من ابنتها الشهيدة أو ابنها الشهيد.
العَيش في الخَيمة والوُقوف في طوابير
على مدار السنوات، كانت المرأة الفلسطينية وخاصة الغزّاوية شاهدة على الحروب والصراعات التي أوجعتها بفقدان ربّ الأسرة لتتحول إلى المُعيل الوحيد، وقد كانت الحرب الأخيرة قاسية عليها من جميع النواحي، فهي التي تثبِّت أوتاد الخيمة في محاولة لحماية ما تبقى من أفراد أسرتها، وهي من بحثت في الأرض عن أعشاب تصلح للطهي، محاولة صناعة وجبات محبّبة لصغارها وسط شحّ الطعام.
ورغم الخسائر الفادحة، لم تَسمح للحزن بأن يسيطر على أسرتها، بل دفعتهم للعمل من أجل الحياة رافضة الاستسلام، وحثّتهم للبحث عن طرق للاستمرار.
بعدما كانت تعيش في مملكتها التي جهّزتها بكلّ تفاصيلها-كما يبدو في الصور والفيديوهات المتداولة لبيوت "قبل، وبعد"- يُلاحظ المُتابِع مدى دِقّتها في اختيار أثاث منزلها وحرصها على توفير حياة كريمة لعائلتها. فغالبيّة نساء غزّة بمجرد أن يسألهن أحدٌ: "كيف كانت حياتك؟"، غالبًا ما تكون الإجابة "تنهيدة" يتبعها وصف للرفاهية التي عِشْنها قبل 7 أكتوبر.
أما اليوم، فلم يعد هناك حرج في الوقوف بطوابير "التكية" – ذلك المكان الذي يُوزَّع فيه الطعام على المحتاجين – ساعاتٍ طويلة من أجل صَحن من العدس، أو الفاصولياء، أو البازلاء، وإن كانت محظوظة، فقد تحصُل على المكرونة أو الأرز، فالمهم هو تأمين وجبة تسدّ رمق أفراد أسرتها وسط هذه الظروف القاسية.
كما أنها تقف في طابور أَطوَل للحصول على "ربطة خبز"، حيث فقدت ثلاث سيدات حياتهن أثناء التّدافع من أجل الحصول عليها. أما طابور المياه غير الصالحة للشرب، فهو أطوَل، والطابور الأكثر قسوة هو ذاك الممتد أمام دورات المياه في مراكز الإيواء.
كلّ ما سَبق تفاصيل لم تعتَدها المرأة الغزاوية، صحيح أنها في الحروب السابقة أُجبرت على النزوح ومغادرة بيتها، لكن ليس بهذه الطريقة التي أعادت إلى ذاكرتها ما رَوَته الجدّات عن نكبة 1948، تلك الحكايات التي بَدت حينها غير قابلة للتصديق، لكنها اليوم باتت واقعًا تعيشه بكلّ تفاصيله.
كيف تُشارك في الدّفن وتُكمل واجِباتها؟
تعرّضت الغزّاوية لاضطرابات نفسيّة بفعل الضغوط الحياتية تحت النار، لكنّها كانت تقاوِم لتتجاوز أزماتها، فهي عامود البيت بعد استشهاد الزوج أو الأبناء، هي ليست ضعيفة -كما يعتبرها البَعض- رغم أنوثتها، لكنّها صَلبة في الشّدائد كما تربّت.
من أصعب المَشاهد التي اعتادها المجتمع تحت القصف، أن تحمل المرأة ابنها أشلاءً بين يديها، أو تودّعه شهيدًا ويداها مخضّبتان بالدماء، ثم تشارك في دفنه، تزفّه إلى المقابر الجماعيّة، قبل أن تعود إلى بيتها المدمَّر، تمسح الدماء، وتكمل طبختها على الحَطَب.
وفي حال سُئلت: "كيف تفعلين ذلك؟"، تَردّ: بِدنا نْعيش يَمّا، الحياة لازم تِمشي، والحزن في القلب.
وفي كلّ يوم، تُظهر قوّتها وصبرها وتبحث عن أي مصدر للفرح، لتكون السَنَد لأولادها في مواجهة الحياة الصعبة، فهي تواجه تحدّيات لا حصر لها لكنّها لا تستسلم.
تخسَر أحيانًا أغلى ما تملك، لكنها تواصل الحياة رغم الجروح النفسيّة التي تُرافقها، وبين دموع الحزن والأمل المستمر، تجد نفسها مضطرة لمواصلة السّير في الطريق الصعب، وفي كلّ خطوة، تزداد صلابتها، وتثبت أن قوتها لا تكمن فقط في قدرتها على التحمّل، بل في إرادتها وتصميمها على البقاء قويّة رغم كلّ شيء.
ما كُتب ليس للتّباكي على الغزّاوية أو لمجرد التّعاطف معها، بل ليجعلها الجميع قدوةً في تشبّثها بالحياة وسعيها الدائم وراء الأمل، فهي تستحق الحياة، رغم الدمار ورائحة الموت التي تُلازمها حتى اليوم.
الصورة: للزميل المصوّر - الصحفي عبد الرحمن زقوت.
