مكتبة الكونجرس والأرشيف الفلسطيني: دروس وإمكانيّات للمستقبل
تعد مكتبة الكونجرس في واشنطن العاصمة واحدة من أبرز المعالم المعمارية، حيث تجذب بناياتها المصنوعة من الرخام الأبيض الرائع انتباه الزائرين والمارّين في شوارع المدينة. وتعتبر مكتبة الكونجرس أكبر مكتبة في المنطقة، وتحمل في أروقتها تاريخًا غنيًا ومكانة اجتماعية وسياسية متميزة، إذ تقع مباشرة مقابل مبنى الكابيتول الأمريكي. تأسست المكتبة في القرن الثامن عشر بداخل مبنى الكونجرس، لخدمة أعضاء الكونجرس حصرًا، وتطورت بمرور الوقت لتصبح أحد أعمدة الديمقراطية الأمريكية، حيث تُتاح مواردها ومحتوياتها النادرة للجمهور العام.
تمتاز مكتبة الكونجرس بجهودها في رقمنة وتوفير موادها للباحثين والمهتمين من مختلف أنحاء العالم، وتحتوي على مجموعة ضخمة تضم أكثر من 470 لغة مختلفة، بما في ذلك اللغة العربية. من خلال زيارة الموقع الإلكتروني للمكتبة، يمكن للمهتمين استكشاف مستندات تاريخية نادرة، تمتد إلى عصور لم يتم تدريسها في المناهج التقليدية. تشمل مجموعة مكتبة الكونجرس أيضاً مواد تاريخية تتعلق بالقضية الفلسطينية قبيل النكبة، مثل تقرير اللجنة الملكية الفلسطينية ما قبل النكبة عام 1948 ونسخ من الصحف والوثائق والتي كانت تهتم المكتبة بإقتناء هذه الكتب بالإضافة الى شرائها لمجموعاتٍ شخصية ومكتبات كاملة أصدرت في دول الشرق الأوسط.
عمل الباحث مهند صالحي منذ خمسة عشر عاماً في قلب هذه المكتبة تحديدًا، القسم الخاص بتاريخ إفريقيا والشرق الأوسط. ويَعتبر صالحي مكتبة الكونجرس جسراً للتواصل بين الثقافات ومكاناً يستقطب الباحثين من مختلف أنحاء العالم. وفي السياق الفلسطيني، يقول صالحي إن إهتمامات الباحثين تختلف من واحدٍ الى آخر، ولكنه يذكر ثورة عام 1936 كحدثٍ تاريخي يتكرر البحث في سياقه وذلك بالإضافة إلى الاهتمام الكبير في الوثائق والمستندات المتعلقة بمعاهدات السلام التي تتعلق بالقضية الفلسطينية.
جناح قسم افريقيا والشرق الأوسط داخل مكتبة الكونجرس
إحدى المجموعات ذات أهمية تاريخية كبيرة وتلفت أنظار الباحثين هي مجموعةٌ خاصة بالصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر، والذي ولد في أواخر القرن الثامن عشر في مدينة نابلس الفلسطينية وكان من أهم الصحفيين والمثقفين في منطقة فلسطين خلال فترة الإنتداب البريطاني. بحسب الباحث في قسم الشرق الاوسط د. مهند الصالحي، فإن مكتبة الكونجرس تعاقدت مع عائلة الصحفي عام ألفين وإثني عشر واقتنت مجموعته كاملةً وهي متاحة اليوم حصريًا في مكتبة الكونجرس وعلى موقعها الخاص. تضم مجموعة الطاهر صورًا ومقالاتٍ عديدة ومنها جريدة "الشورى" التي اعتمدت شعار "جريدة سياسية شرقية اجتماعية" وصدرت من القاهرة في ذلك الحين وواكبت تطور القضية الفلسطينية وتوافد اليهود من الدول الأوروبية إلى أرض فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية. الصحفي محمد علي الطاهر كان قائمًا على هذه الصحيفة وحذّر في مقالاته من خطر تحيّز الانتداب البريطاني لليهود وإتاحة حصولهم على السلاح وفي المقابل منع ذلك من العرب الفلسطينيين. توفي الطاهر عام الفٍ وتسعِمئةٍ واربعةٍ وسبعين وترك وراءه إرثًا ثقافيًا غنيًا جدًا من كتبٍ وصحف وثّقت عمله كصحفيٍ في فترةٍ حرجة جدًا من تاريخ فلسطين. يقول صالحي "إن هذه المجموعة تعتبر ثمينةً وفريدة جدًا بسبب الفترات المختلفة التي توثقها على لسان صحفيٍ عاش فيها ونشرها وقد كان اقتناؤها وإتاحتها مكسبًا كبيرًا للمكتبة والمهتمين في هذه القضية".
وفي سياقٍ متصل يتابع صالحي بأنه يلاحظُ نقصًا بالمواد والأبحاث التي تتناول المجتمع الفلسطيني في داخل مناطق الـ 48 وذلك على ضوء محاولات لباحثين في إيجاد موادَ عن هذه الفئة تحديدًا. يشدّد صالحي على أن المكتبة تقدم منصّة مهمّة وفرصة لتوسيع الدراسات التي تتناول التاريخ من كافة وجهات النظر المختلفة والتي تشمل تعزيز الرواية من منظور فلسطيني، في حين توافق الباحثة في تاريخ الشرق الأوسط والأستاذة في جامعة هامبلد في كاليفورنيا لينا دلاشة مع هذه المقولة وتقول بأن فعلًا هناك نقصٌ في المواد المتعلقة بهذه الفئة. وفي سياق الفلسطينيين فإن المكتبة تحتوي على مجموعاتٍ فوتوغرافيةٍ التُقطت ما قبل النكبة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين تعتبرها دلاشة مهمةً جدًا وذلك لأنه يصعب الحصول عليها من مصادرَ أخرى، فهي لقطاتٌ توثق حياة الفلسطينيين وتبرز ملامحا اجتماعية وسياسية مهمة في تاريخ المجتمع الفلسطيني.
للمواد الفلسطينية في مكتبة الكونجرس أهمية كبيرة برأي الكثيرين فالباحث الفلسطيني في علوم الشرق الأوسط، خليل جهشان يرى بأنه يجب تحويل الموادّ التاريخية من مجرّد وثائق على رفوف مكتبة الكونجرس إلى مصادر متاحة للجمهور العام، وليس فقط للخبراء، الأمر الذي من شأنه أن يسعى إلى فهم أعمق للقضية الفلسطينية في البحث العلمي. يقول جهشان: "عندما عملت في الكونجرس، طلبت من مركز الأبحاث دراسات تخص القضية الفلسطينية، وكانت هذه الأبحاث مرجعاً هاماً في قضايا المساعدات للمؤسسات الفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، تعرضت لمحاولات محاربة من قبل بعض مناصري الجانب الإسرائيلي، الذين قدموا طلبات لدراسات تعكس وجهة نظرهم."
مطبوعة فوتوغرافية ملونة يدوياً للقدس من العام 1919
إذًا فإن الصراع ليس فقط على الأرض، بل أيضا على التاريخ وكتابته وبحثه، وفي هذه الحالة الفلسطينيّة صراعٌ على الرواية والرأي العام في مواقع اتخاذ القرار مثل الكونجرس والذي يغيب عن الأنظار في الفترة الحالية، ما يظهر أهمية إشاعة الوعي بالصراع الثقافي والتاريخي، خصوصاً في مؤسسات مثل مكتبة الكونجرس.
في النهاية، لمكتبة الكونجرس في توثيق القضية الفلسطينية وتقديم وجهة نظر فلسطينية شاملة دور هام، وتمثل المكتبة منبرا لفهم التاريخ والرواية من منظور متعدد الأوجه. تبرز أهمية توثيق تلك الرواية، من خلال جعلها متاحة للجمهور العام، لتعزيز الفهم والحوار في ميدان اتخاذ القرار، مع التأكيد على أهمية الأصوات المتعددة في هذا الصراع التاريخي.
مع غياب مشروع أرشيفٍ فلسطيني جامع للمواد التي توثّق تاريخ الشعب الفلسطيني، تظهر أهميةُ توثيق التاريخ والأرشفة في مكتبة الكونجرس بشكل واضح كونها تحتوي على مواد ووثائق تاريخية أمست نادرة في ظل سيطرة إسرائيل على أجزاء كبيرة من الأرشيف الرسمي لهذه المنطقة ما قبل 1948. وفي هذا الصدد تشدّد دلاشة، على أهمية إقامة أرشيف رسمي للقضية الفلسطينية والذي من يبحث يصم تاريخ الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص تاريخ الفلسطينيين في الداخل، لتسليط الضوء على هويتهِ الفلسطينية وامتداده كجزء من تاريخ الشعب الفلسطيني الشامل والتي حاولت إسرائيل جاهدةً لسلخه عن هذه الهوية وهذا التاريخ في أوساط الشباب على وجه الخصوص. تقول دلاشة أنها تؤمن بمشروعِ أرشيف فلسطينيٍ شامل والذي جعل هذه المواد التاريخية متاحة للجمهور العام، بما في ذلك غير الخبراء.
في الختام، تبرز مكتبة الكونجرس كمكان يتيح للأجيال القادمة فرصة دراسة وفهم تاريخ القضية الفلسطينية وتطوراتها، من خلال مواردها الثرية ومحتوياتها الفريدة. وفي هذا السياق يأتي دور تأسيس ارشيف فلسطيني ومكتبة وطنية جامعة لتكون مرجعًا حضاريًا يُسهم في بناء وجدان الهوية الفلسطينية وترسيخ تاريخها أمام العالم.