أكثر المسـاءات سعادةً في حيـاة النـادلـة الشـابة

كراقصة باليه تتقن عزف جسدها على البلاط، برشاقةٍ مع ابتسامةٍ دافئة لا تفارق ثغرها... وبخفة فراشةٍ تتمايل بجسدها النحيل على الأنغام التي يصدح بها مذياع المطعم، بين طاولات الرواد، كانت النادلة الشابة توزع بلا كللٍ الكؤوس والأطباق وابتساماتٍ ناعمة بمتعةٍ لا تضاهى.

ملامح وجهها العذبة تفضح أن عمرها لا يتجاوز الثامنة عشرة، بتنورةٍ سوداء وقميصٍ زهري تعمل في هذا المطعم المتواضع منذ سنة، مع صاحبته العجوز، الصديقة القديمة لأمها... لتعيل مع راتب والدها التقاعدي عائلةً مكونةً من أمٍ مريضة بالسكري وأبٍ خدم لأربعة عقود في القوات البحرية، ثمَّ تقاعد منذ بضعة أشهر ليتفرغ بشكلٍ كامل لهوايته المفضلة: جمع علب السجائر الكرتونية، ليصنع من لصقها بعضها ببعض أشكالاً عدة، هو وحده - في العائلة وحتى الزوار-  يعتقد أن لها معنى. وثلاث شقيقات أصغر منها ما زلن يدرسن، وشقيقٌ وحيد لم يدخل المدرسة بعد... أمه تصفه بأنه عصفورها، ووالده يسميه تدللاً بالقبطان، أما أخته النادلة وبقية الأخوات فيصفنه بأنه أسوأ سباح عرفنه على الإطلاق، وذلك لأنه يحلو له كل صباحٍ أن يقول لشقيقاته صباح الخير على النحو التالي:

يقتربن من سريره بريبةٍ وخوف على رؤوس أصابع أرجلهن، تلتقط إحداهن غطاءه المتدثر به، وبعد ثوانٍ من الدعاء الصامت والتوجس تكشفه بغتةً... ليرمقن بقهرٍ بقعةً رطبةً واسعةً على الأردية البيضاء أسفل منتصف جسده. ثمَّ يطلقن مع بعضهن آهاتٍ وتنهدات، وهن يشعرن بالملل من الحياة مع هذا الشقي. صباح هذا اليوم رأين كيف أن بقعته الرطبة قد تضاعف نصف قطرها، فشعرن بأنه يتحداهن بكل وقاحة، لهذا قررن هن الأربعة المتحلقات حول سريره، بعد أن فتح عينيه وقال ببراءة لوجوههن المتجهمة من تماديه في تلويث الأردية: (صباح الخير) لهذا قررن بصوتٍ عالٍ تمزيقه إرباً إربا.

عندئذ أسرعتْ أمهن إلى سريره وحضنته إلى صدرها، ثمَّ أقنعتْ بناتها بتأجيل تنفيذ فكرتهن بضع سنوات. ريثما يكبر قليلاً، لأن الله لا يقبل في جنته طفلاً لم يتعلم بعد الأحرف... ثمَّ قبلته، أما هنّ فاقتنعن على مضضٍ بفكرة أمهن وابتعدن عن سريره وهو يمد لهن لسانه، وفي سره كان قد نوى أن لا يتعلم الحروف مهما شرحتْ له أخته في المساء.

سرعان ما تنسى ابنة الثامنة عشرة هدايا شقيقها الصباحية، لترمي بأردية سريره على عجلٍ في الغسالة، ثمَّ ترتدي ثيابها وتذهب إلى المطعم لتظل داخله حتى نهاية المساء. حظها الدراسي لم يكن جيداً، لكنها لم تحزن لأن العجوز صديقة أمها أثناء زيارتها لهم في منزلهم... تأملتْ قوامها الممشوق، ثمَّ عرضتْ عليها العمل في مطعمها الصغير مقابل راتب مجزٍ فوافقتْ هي وأمها، أما والدها فلم يكترث للأمر لأن علب السجائر الكرتونية قد خطفتْ عقله إلى عالم الأشكال غير المفهومة إلا بالنسبة له.

وصارتْ مع نهاية كل شهرٍ من عملها تخصص جزءاً غير بسيط من راتبها، لشراء أنواع مساحيق الغسيل، التي يحلو لشقيقها إلحاق هزائم نكراء بتأثيرها على بقع ثيابه، وأيضاً لشراء الروايات التي تعشق قراءتها لأخواتها المتجمعات حول المدفأة أثناء السهرة، وهنّ يصغين بلهفةٍ لصوتها، بينما والدهن على طاولةٍ قريبة وفوقها قد جمع تلاً من العلب الفارغة، ثمَّ راح يتأملها بعمق وهو يداعب ذقنه... وأمّهن تصغي معهن وهي تحيك على كرسيٍ بجانبهن كنزةً لصغيرها. ذلك الصغير الذي ينتهز - دائماً وعن سابق إصرارٍ وترصد - فرصة خطف كلمات الرواية لانتباه شقيقاته، ليشرب متعمداً أكبر كمية ممكنة من الماء عن غير عطش.

رنت الساعة مشيرةً إلى تمام الرابعة مساءً، على أحد جدران المطعم، فوق رأس العجوز وهي تقرأ في روايةٍ جلبتها لها النادلة الشابة في الصباح. أما النادلة فكانت تغرد بين الطاولات وهي تراقب ساعة المطعم بطرف عينها بلهفة... لتمرّ عليها بضع الدقائق وكأنها ساعات، إلى أن دخل المطعم ذلك الرجل الغريب، وما إن لمحته النادلة حتى شهقتْ فرحةً بصوتٍ مكتوم. هي شهقة حبٍ نبتت سراً وبهدوء داخل قلبها خلال ثلاثة أشهر، من اليوم الأول لمجيء هذا الغريب إلى المطعم، أغوتها قامته المديدة وسمرته الشرقية وملامح وجهه المنكسرة وشارباه الناعمان... مرت ثلاثة أشهر وهذا الغريب يأتي كل يوم في الرابعة مساءً تنقص دقائق أو تزيد، ليدخل المطعم بوجهه المتجهم الذي ينضح كآبةً وتعباً، ثمَّ يجلس دون أن ينبس ببنت شفة إلى طاولةٍ تقع جانب نافذةٍ تطل على الشارع. ولم يغيرها. حتى إن أغلب رواد المطعم سموها فيما بينهم سراً (طاولة الغريب). وما عاد أحد يقترب منها، فقط صدفةً جلستْ ذات مساء عليها صبيتان... فطلبتْ منهما النادلة بمودةٍ تغييرها لأنها محجوزة، لترحل الصبيتان إلى طاولةٍ أخرى بعد أن منحتا مودتها كلمة اعتذارٍ.

يومها خافتْ أن لا يأتي، لكنه ما إن حلّ وقته حتى هطل على المطعم كما يهطل كل مساء، بوجهٍ متجهم وصامت ليجلس كعادته إلى طاولته، فيبعثر عليها بفوضى جرائده، وخلال دقائق يتناول طعاماً بسيطاً مع كأسٍ من النبيذ، ثمَّ يشعل سيجارةً ليرمق بنظراتٍ حيادية العابرين في الشوارع، وقبل أن ينتهي من سيجارته يرمي بالنقود على الطاولة... ثمّ يتأبط جرائده ويخرج كما دخل متجهماً وصامتاً على عجلٍ، حتى إنه ولا مرّة كلّف نفسه عناء النظر إليها وهي تهمس له بما يريد تناوله، أو عندما تضع له ما طلبه على طاولته أثناء انحنائها إليه لعل عينيه تعثران على وجهها.  لكنَّ عينيه كانتا دائماً قبل الطعام تتجولان بين كلمات جرائده، وبعد الطعام تكونان معلقتين على زجاج النافذة... لهذا صارتْ في نفسها تكن عداءً هائلاً للجرائد والنوافذ... ولم تكرهه. تمنتْ بحزنٍ هادئ طوال أيام تلك الأشهر لو أنه يمنحها نظرةً واحدة، لكنه كان يدخل ويخرج وكأنها غير موجودة. كل هذا التجاهل واللامبالاة منه تجاهها لم ينسفا الحب الذي انفجر في قلبها منذ أن شاهدته! هذا الحب راح ينمو في داخلها مع الأيام حتى صار في نهاية الشهر الثالث شجرةً يانعة، تحط على أغصانها العصافير، وثياب شقيقها المغسولة. لم تدرك لماذا أُغرمتْ به رغم الغموض الذي يرتديه على نحو موحش. ما تدركه أن مشاعر حلوة الانسياب تسري داخل صدرها عندما تقترب بخجلٍ من طاولته وهي تصغي مرتبكةً لدقات قلبها، خائفةً من أن يسمع خفقاتها أحد الرواد على الطاولات القريبة... لهذا صارتْ أثناء وجوده تدمن اختلاس النظر إلى جهته من بين الطاولات.

في الليلة الماضية وهي مستلقيةٌ في عتمة غرفتها على السرير، تحدثتْ بحميمية عنه لشقيقتها وهي تتخيله وتصفه لها. بعد ساعة صمتت لأنها اكتشفتْ أن شقيقتها قد غفتْ قبل أن تسمع كلمة واحدة. وفي مساءٍ آخر من الشهر الماضي، تناهى لأذنها همسات ثلّة من رواد المطعم يجلسون بعيداً عن طاولة الغريب. قال أحدهم لأصدقائه وهي تنحني جانبه لتضع لهم الكؤوس، وهم يختلسون النظر للغريب عن كثب، قال:

- ذلك الغريب هرب من بلاده إلى هنا بعد نصف ساعة من قيام انقلابٍ فيها... والحكام الجدد في بلاده يطالبون حكومتنا بإلحاح أن تطرده إلى خارج حدودنا... وإلا فسيطردون سفيرنا من عاصمتهم.

صمت ليتجرع كأس ماءٍ ثم أردف لأصدقائه بثقة:

- يبدو أنه رجل ذو شأن في بلاده...

وانقضتْ الأيام، همسات الآخرين وغموض الغريب ونظراتها المتيّمة والمختلسة على جناح الخجل... لتمر ثلاثة أشهر من خفقاتٍ لا تدوي إلا مع حلول الرابعة من هذه المساءات الخريفية.

لكن، هذا المساء هبَّ عليها ليس كهبوب المساءات الأخرى، فجأةً وعلى غير عادته، دلف الغريب على وقته المعتاد إلى المطعم بصخبٍ غير مألوف، وهو يصفر بشفتيه لحناً ما ويتمايل كمخمورٍ طرباً على إيقاعه... ثمَّ، كممثلٍ مسرحي انحنى أمام الرواد بوجهٍ يشرق فرحاً وخلع قبعته. ليمطره الجالسون إلى طاولاتهم بعبارات الترحيب، رغم اندهاشهم لهذا التحول المفاجئ الذي طرأ على ملامح الغريب وسلوكه... حتى النادلة التي شهقتْ بسعادةٍ إثر دخوله، تجمدتْ من فرط المفاجأة فحضنتْ صينيتها الصغيرة إلى صدرها. ارتدى بمهارةٍ قبعته ليخفي عينيه عن الجميع ثمَّ مشى بشكلٍ راقص، وقد دسّ أصابع يسراه في حزام بنطاله.. أما يمناه فراح يلوح بها وهو يدندن لحن أغنيةٍ مشهورة. تحمس بعض الموجودين لإيقاعه، فشرعوا بالتصفيق مؤازرينه بتشجيعهم لمشيته الراقصة، إلى أن وصل إلى حيث تقف النادلة بعد أن لمح بياض رجليها المندستين في حذاءٍ ناعم. رفع بأصابعه القبعة قليلاً عن جبينه وتأملها، ارتبكتْ كثيراً وتلفتْ وجهها بضع مرات خوفاً من أن تصطدم عيناها بعينيه. حاولتْ أن تبتعد عن طريقه إلا أن رجليها خانتاها، فظلتْ مسمرةً أمامه وقد فضح الارتباك ملامح وجهها. ليتسلل لونٌ أحمر إلى وجنتيها. ارتعش جسدها وهي تطلق صرخة خوف، إذ إنَّ الغريب خطف أصابع يدها بغتةً وشدها إليه لتفزع عيناها، بينما صينيتها تسقط على الأرض. للحظةٍ لم تفهم ما يجري والغريب يأخذ بسرعةٍ ساعدها ليرميه كشالٍ على كتفه حتى عنقه. ثمَّ يحضنها من خصرها ليراقصها كما يراقص عشيقٌ عشيقته في فيلمٍ سينمائي. تمايلت معه بجسدها المتشنج... لكن تصفيق الرواد الذين راق لهم المشهد، وغناء بعضهم بصوتٍ عالٍ، ووقوف آخرين بجانب طاولاتهم، وقهقهات العجوز الجالسة على كرسيها جانب الباب، وقد رفعت من صوت موسيقى المذياع الجاثم فوق طاولتها وهي تهز كتفيها... ليعم صخبٌ ممتع نادر الحدوث فضاء المطعم. كل هذه الأشياء حاصرتْ جسدها فأجبرته على الاستسلام، لتنساب في حركاتٍ أخّاذة كغجريةٍ يتواطأ جسدها مع موسيقى غيتارٍ قديم، بثّ روحه في خصرها البض. بضع دقائق كانت كفيلة لتحويل المطعم إلى ساحة عرس، حتى إن بعض الرواد بدؤوا بمراقصة صديقاتهم إلى جانب طاولاتهم. غناءٌ شبه جماعي، ضحكات عذبة لفتياتٍ جميلات، قهقهات الرجال والعجوز ثمَّ موسيقى المذياع. لم تصدق النادلة ما يحدث، فهذا كان أكثر بكثير مما تمنته خلال الأشهر الثلاثة الماضية. جسدها يلامس بحنانٍ جسده ثمَّ يبتعدان ليتلامسا ثانيةً... جسدان لا يعرفان أسماء بعضهما يبوحان في فسحةٍ ضيقة برقصةٍ عطّرتْ لها روحَها، فتمايلتْ وهي معلقةٌ على كتفه بنشوةٍ لم تعش مثلها في حياتها. شعرتْ وهي تتأمل وجه الغريب ذا الملامح الشرقية وقد سحرتْ لبّها، أن جناحين صغيرين من ياسمين وقرنفل التصقا بظهرها... لتحلِّق بحريةٍ وهي تعبر برقصتها من فوق البحار والغابات وعلى كتفيها تحط الطيور المهاجرة، وكأنها في حلمٍ تمنته ألا ينتهي.

بلا تخطيطٍ أو نيةٍ مسبقة بدأتْ الحفلة، ثمَّ بهما ستهدأ لتنطفئ على إثر دقائق أنعشتْ أرواح كلّ الموجودين في المطعم على اختلاف أعمارهم.

صار الغريب يلهث وزخّة عرقٍ هطلتْ عن جبينه ثمَّ داهمته نوبة سعالٍ حادة، فوضع يده على قلبه وتأوه لثانيةٍ سرعان ما ابتسم بصعوبة فعانق بأصابعه يدها اليمنى وهو يعصرها برفقٍ، وانحنى بتواضعٍ خالعاً قبعته للجمهور، لتشتعل في المطعم عاصفة تصفيق. انحنتْ النادلة أيضاً لتصفيقهم وقلبها يكاد أن يفلت من صدرها ليسقط على البلاط.

التفت الغريب ونظر إليها، ليشق عاصفة التصفيق صوتٌ عالٍ لأحدهم من بعيد آمراً الغريب:

- قبّلها...

تأمل الغريب ذو العينين العميقتين اللتين تسجنان في أعماقهما أسراراً كثيرة، تأمل برقةٍ عينيها الدافئتين وهما تنشدان موسيقى من سعادة وجمال، هي لمحتْ في أغوار عينيه صوراً ضبابية لقصصٍ غير واضحة من حياته. انحنى على خدها وشمّ بعمقٍ رائحتها، حبس نفسه في صدره، ليظل عطرها داخل رئتيه، حتى الرواد حبسوا أنفاسهم في صدورهم وهم يراقبونه. بعد هنيهة أحستها دهراً قبَّلها في خدها ببهاءٍ يليق بوجنة فراشة، فشعرتْ بدوخةٍ خفيفة في رأسها وكادت أن تسقط مغمياً عليها إثر القبلة التي لم تتذوق مثلها في كل سنواتها. الجميع صفقوا بحماس وكأنهم من قبَّلها وهم يصرخون (هييييييـه) ويبتسمون لأجل مشهد القبلة الذي أغرى شهية خيالهم لرسم قبلات هم أبطالها. عندئذٍ لوّح لهم الغريب ضاحكاً. أما النادلة فحلقتْ كعصفورةٍ بثغرٍ يمطر على وجوه الآخرين ابتسامات الحياء، ويدها على خدها وكأنها تحمي بقاء أثر أول قبلة غرامٍ في حياتها، لتحطّ على كرسيٍ جانب العجوز وقد احمرّ وجهها خجلاً.

الغريب الذي مشى إلى طاولته المعتادة وهو يسعل، ناوله جارٌ على طاولةٍ قريبةٍ منه نصف كأس نبيذٍ كان له. فالتقطه الغريب ورفعه أمام أعين الرواد الذين رفعوا سواعدهم... بعضهم بكؤوس نبيذهم، وبعضهم بأقداح الشاي، وبعضهم بفناجين القهوة... وواحدٌ رفع كأس ماءٍ، هو ذاته من أهدى الغريب كأس نبيذه. ثم شرب الجميع نخب الغريب، الذي شرب النبيذ برشفة ومشى إلى طاولته المحاذية للنافذة، حيث ارتمى على الكرسي منهك القوى متعباً، أشعل سيجارةً وهو يزفر بحدة، ثمَّ عبث ـ متضايقاً ـ بأزرار قميصه ليريح رقبته من الأسر، وقد بلل ياقته عرقٌ غزير. أحد الرواد قفز عن كرسيه بجسده الضخم، وهو يهتف بصوتٍ أجش وقد رفع قبضته عالياً:

- أيتها النادلة الجميلة... وزعي كؤوس النبيذ على كل الطاولات... نبيذ هذا المساء على حسابي...

ثمَّ خبط بقبضته على صدره كمن يغوي امرأةً تحتاج لمساعدة. وراح يرسم على وجهه تواضعاً جماً وهو يتلقى عبارات الشكر والمديح، التي باح بها أغلب الجالسين في المطعم من كل الجهات له، مع تصفيق بعضهم كرمى لضيافته... وما كادت مؤخرته تلامس كرسيه، حتى هبَّ واقفاً مجدداً بوجهٍ فزعٍ كمن استيقظ من سكرته، وهتف متوسلاً بصوتٍ متهدجٍ:

- أيتها النادلة الرائعة جداً... أرجوك، اختاري النبيذ من النوع الرخيص...

ضحك من ضحك، وسخر من سخر، وابتسم من ابتسم، وامتعض من امتعض... أما المضيف البدين فقد جلس غير آبهٍ لانخفاض عدد الفتيات اللواتي رحنّ يرمقنه بإعجاب بعد المرة الأولى إلى الصفر، فعقله الآن ليس معهن إنما كان في جيبه.

من بعيد اختلستْ النظر إليه، وقد داهمته نوبة سعالٍ ثانية أشدّ من الأولى، فأنفق عليها الكثير من المناديل الورقية. مالتْ رقبتها لتتأمل البلاط بوجوم ثمَّ تنهدتْ النادلة، وتمتمتْ شاردة الخيال بوجهها الطفولي للعجوز متسائلةً:

- هل يحبني؟

انحنتْ إليها العجوز وراحتْ تمسح بكفها على خصلات شعر النادلة، ذي السواد الداكن كالقهوة، والمسترسل حتى منتصف ظهرها، قالت بثقة:

- نعم يا صغيرتي... إنه متيمٌ بك وقد غرق في حبك حتى أذنيه... لن يعثر على فتاةٍ بجمالك، لا في بلاده ولا في بلادنا...

ابتسمتْ النادلة ثمَّ سألتها مستغربةً، وقد مطتْ شفتيها الورديتين بتعجب:

- لكن... من أين جاءته كل هذه السعادة فجأة الآن؟ وهو دائماً متجهم وعابس؟

فكرتْ العجوز لثوانٍ وهي تحك رأسها محتارة، قالت:

- يبدو أنه كان يصغي للأخبار في المذياع قبل أن يأتي إلى هنا، ليسمع منه خبراً يؤكد أن أصدقاءه في بلاده قد نجحوا في القيام بانقلابٍ جديد و...

قاطعتها النادلة بخوف:

- هذا يعني أنه سيرجع إلى بلاده...

- طبعاً سيرجع... ليصبح وزيراً أو...

- وإن رجع ماذا سأفعل أنا؟

قاطعتها النادلة فأجابتها العجوز مبتسمةً وهي تغمزها بعينها:

- وقتها عليك أن تدمني الإصغاء إلى الإذاعات الإخبارية... مثل زوجي، إلى أن تسمعي في يومٍ ما... أتمنى ألا يكون بعيداً... خبراً يقول إن انقلاباً آخر قد أطاح بهذا الغريب وجماعته، وقبل أن تصلي إلى هنا... يكون هو قد وصل.

صمتتْ ثمَّ زفرتْ لتردف بعد برهةٍ، وقد جمعتْ في موسيقى نبرتها خبرة حياةٍ ذات عقودٍ عديدة:

- هم هكذا الغرباء..لا يغيرون عادتهم، يظهرون فجأةً ليخطفوا بعيونهم الساحرة قلوبنا، وقبل أن نعرف عنهم أي شيء يختفون - أيضاً – فجأةً، وقد سرقوا جزءاً من روحنا، قد يعبر حياتك أكثر من غريب.. لكنك مثل كلّ النساء، لن تتعلمي الدرس جيداً. كلّ النساء هكذا... عصورٌ تمضي، وأرواحهن تتعرض للخطف على أيدي الغرباء، أكثر ما يزعجني يا بنتي هو أن الأنتربول الدولي يهتم بكل القضايا إلا هذه القضية!

ضحكتْ العجوز وهي ترى الخوف على عيني النادلة، التي أصابها الشحوب من هذا الكلام، فهمستْ تنصحها:

- اذهبي واجلسي إلى طاولته، تحدثي قليلاً معه. اسأليه عن حياته، عن عائلته، عن الأشياء التي يحبها والأشياء التي يكرهها، وكيف وصل إلى هنا، تعرفي على نبرة صوته... وأنا سأنفذ طلبات الرواد ريثما ترجعين...   

قالت النادلة بسرعةٍ وبصوتٍ منخفض:

- لا أستطيع...

صمتت ثمَّ أردفتْ بسعادة من عثر على حل:

- سأكتب له رسالة وأضعها مع طبق الفطائر الذي يتناوله دائماً...

نهضت بسرعة دون أن تسمع رأي العجوز في فكرة الرسالة، لتركض إلى غرفة المطبخ، وتترك العجوز التي خطفتْ فكرة الرسالة ذاكرتها، فأخذتها إلى سنواتٍ قديمة من حياتها.

دخلتْ النادلة الغرفة الصغيرة للمطبخ وأغلقتْ الباب، أخرجتْ من حقيبة كتفها ذات اللون السماوي، والمعلقة على المشجب، قلماً ودفتراً صغيراً، لتجلس على كرسي وهي تقلّب أوراق دفترها بغضب، وترمق تلك الرسومات (البيكاسوية) التي رسمها شقيقها الصغير على الصفحات. ثمَّ تنفستْ الصعداء عندما عثرتْ على ورقة بيضاء، لم تستبحها تلك الأشكال الغريبة والفوضوية... التي يجيد شقيقها رسمها بالعشرات خلال دقائق. ضمتْ ركبتيها لبعضهما وانحنتْ إلى بياض الورقة، بعد أن استنشقتْ نفساً عميقاً، راحتْ تكتب بعفوية... وهي تقرأ ما ترتجله من كلمات ترسمها بخطٍ عادي على الأسطر:

- مساء الخير يا صاحب الوجه الهادئ والعينين العميقتين، أعتذر... فأنا لا أعرف اسمك، ولا من أي بلدٍ أنت... فقط أعرف لون عينيك... هذه أول رسالة أكتبها في حياتي لرجل، ابنة خالتي كانت تكتب الكثير من الرسائل لحبيبها، لكنها الآن ليست بجانبي لتساعدني. أنا أراقبك منذ ثلاثة أشهر، أشعر بأنني قد أعجبت بك من أول مرة جئت بها إلى مطعمنا... لكنك لم تنتبه أبداً لنظراتي إليك، ولم تحاول أن تنظر إليّ ولا مرة حتى اليوم... لقد جعلتني أحزن لليالٍ طويلة...

يبدو أنك قد ذهبت صباح اليوم إلى المشفى، وأجريت لعينيك عملية جراحية ناجحة... شكراً لك على هذه الرقصة الممتعة. لدي فكرة... غداً يوم عطلة، وسينما المدينة ستعرض في المساء فيلماً رائعاً، شاهدته منذ سنتين مع شقيقاتي... أنا متأكدة أنه سيعجبك... إذا كنت تحبني كما قالت لي السيدة صاحبة المطعم... سألاقيك مساء الغد أمام الحديقة العامة، لنذهب معاً ونشاهد الفيلم، هل أنت موافق؟ إذن أرسل لي الآن قبلة بأصابعك عبر الهواء... فأنا انظر إليك... وإذا لم تكن تحبني مزق هذه الرسالة بلطف وارمها من النافذة بحنان، لتهطل على رؤوس البشر في الشارع مثل ندف الثلج...

ملاحظة: لن أكتب لك اسمي حتى أعرف اسمك...

ملاحظة ثانية: أرجوك توقف قليلاً عن التدخين... إنك تشبه مدفأة جدتي، أنا خائفة على صحتك. لولا السجائر اللعينة لبقيت تراقصني حتى منتصف الليل، لكن السعال خطفك من رقصتنا الحلوة... شكراً لك على هذه الرقصة، لم أكن سعيدة في حياتي بمثل حجم السعادة التي شعرتُ بها وأنت تراقصني...

ملاحظة ثالثة: هل تحب فطائر الزعتر أكثر أم فطائر الجبنة؟

طوت الورقة كما تطوي قطعة قماشٍ تحبه، ثم وضعتها بين كفيها وضمتها إلى صدرها. رفعت رأسها قليلاً وهي تسدل جفنيها على عينيها، تنهدت ثم راحت تناجي بصوتٍ ذي نبرةٍ عميقة تطلع من أعماق أحشائها:

- يا رب... أرجوك، أتوسل إليك... أطل بعمر حكومة بلاد هذا الغريب إلى الأبد... يا رب لا تسمح لأصدقائه المشاغبين بأن ينجحوا في قلّب هذه الحكومة، يا رب إنها حكومة مؤمنة ولطيفة... يا رب ساعدها لتلقي القبض على كل أصدقاء الغريب... يا رب أنا لا أريدهم أن يشنقوا، لكنني أريدهم أن يسجنوا إلى الأبد، ليظل هذا الرجل سجين قلبي... يا رب... أتوسل إليك، خذ كل السنوات المتبقية من عمر حكومتنا، وأعطها لحياة حكومة الغريب، لأنها تعبدك كل يوم... أرجوك حقق لي هذه الأمنية، وأيضاً ساعد أخي الصغير... لأنني لا أريد أن أمضي حياتي وأنا أغسل له كل يوم ثيابه وأغطية سريره... أرجوك يا رب أنا لا أريد أكثر من هذا...

صمتت واستنشقت نفساً عميقاً ثمّ زفرته ببطء، فتحت عينيها وأسرعت لتعد الفطائر المفضلة له، جمعتها على طبق وفوقها وضعت منديلاً ملوناً وعليه رسالتها... ثمّ خرجت من غرفة المطبخ ومشت مرتبكةً إلى طاولة الغريب، الذي كان قد اتكأ بجبينه على زجاج النافذة ليرمق بصمت أولئك المارين في الشارع... وبين أصابعه انتصبت سيجارةٌ أزعجها شكلها. توقفت على بعد خطوة من طاولته بحياءٍ، لتصغي بوضوحٍ لدوي خفقات قلبها فتسارعت أنفاسها... ونظرت إلى كتفه بطرف عينها، ثم التفت للعجوز الجالسة بعيداً وصدرها يعلو ويهبط، ابتسمت لها العجوز وهزت رأسها مشجعةً إياها. سجنت في رئتيها آخر شهيقٍ لها، واقتربت النادلة على رؤوس أصابع رجليها، لتضع الطبق على حافة طاولة الغريب، ثم فرت مسرعةً من بين الطاولات إلى العجوز لتجلس جانبها وهي تلهث... قالت لها بصوتٍ عالٍ وقد ضمت كفيها إلى صدرها بفرح:

- لقد أعطيته الرسالة...

بحنان أمٍ ربتت العجوز على خد النادلة، بعض الرواد انتبهوا لما فعلته النادلة... فتهامس رجلٌ وامرأة على تلك الطاولة... وعلى طاولةٍ أخرى تمنت صبيةٌ في سرها لو أنها تكتب رسالةً لأي رجلٍ في هذا العالم. ورجلٌ ثانٍ صاح وهو يلف قدماً على قدمٍ، وكأنه يتحدث مع نفسه، متقمصاً نبرة غاضب:

- ألا يوجد رسائل للآخرين؟ هذا ليس عدلاً، أنا أيضاً جميل... شابٌ يرتدي ثياباً أنيقة، كان يتناول طعامه مع صديقه، انتصب ونده على النادلة قائلاً:

- إذا سمحت يا آنسة، أريد رسالتين... واحدة وسط لصديقي هذا... وثانية حلوة جداً لي...

ثم جلس ليضحك مع من ضحك، حتى العجوز والنادلة ضحكتا... أما الغريب فظل منحنياً على زجاج النافذة متجاهلاً ما يحدث وما يقال حوله دون أدنى اهتمام للجميع، ولطبق الفطائر، وحتى لسيجارته.

مرت دقائقٌ طويلة على صدرها ببطءٍ والنادلة تنتظر بفارغ الصبر - كما تخيلت منذ هنيهة - القبلة التي سيرسلها لها عبر الهواء برؤوس أصابعه. بدأت الدقائق تطلق الرصاص على مزاجها، وأذنها تتجاهل طلبات بعضهم وهي ترمق الغريب بأعصابٍ مشدودة... علّه يلتفت فيلمح رسالتها. الدقيقة الأخيرة من انتظارٍ ٍأنهك أعصابها، أطلقت رصاصة الرحمة على صبرها فقتلته... شيءٌ غامض داخلها لم تدرك كنهه، جعلها تنهض وتمشي بلا ارتباك إلى طاولته على مرأى من عيون الآخرين الصامتة بتوجس. وبجانب طاولته انحنت حتى شاهدت نصف وجه الغريب:

ابتسامةٌ شاحبةٌ لشفتين محمرتين من كثرة إزهاقهما لأرواح السجائر، ملامحٌ ذبلت فعافت صفاتها والتجأت للونٍ أزرق باهت، وعينٌ شبه مسبلة الجفن، معلقةٌ على زجاج النافذة بثباتٍ وكأنها قد ملت البحث عن شيءٍ ما، لم يخلق بعد.

سقطت سيجارته من بين أصابعه وتدحرجت على سطح الطاولة، ليتناثر رمادها الكثيف، والذي يشي بأن صاحبها قد أشعلها لكن لم يكن لديه الوقت الكافي لتقبيلها.

بفزعٍ لم تتذوق طعمه أبداً في سنوات حياتها كلها، رمت النادلة أصابعها على كتف الغريب وهزته، ثمّ شهقت بهولٍ مع من شهق إثر ميلان جسده وسقوطه على الأرض ليتكوم عليها محدثاً ضجةً عالية. النساء ومن خلف طاولاتهن أطلقن صرخات خوف، واثنتان صفعتا عينيهما وانخرطتا في بكاءٍ مرير... بعض الرجال تحولوا إلى تماثيل وقد توقفت عقولهم عن العمل لثوانٍ، وبعضهم أسرعوا وهم يصطدمون بالكراسي والطاولات ثم انحنوا فوق الغريب.

صرخ أحدهم بحنقٍ كمجنون:

- هل من طبيبٍ هنا؟

اندس بين الرجال المتحلقين حول الجسد الصامت، رجلٌ وهو يزعق:

- ابتعدوا عنه... ابتعدوا عنه...

انحنى على صدر الغريب ومزق قميصه، ثم جسً بأصابعه المرتعشة المرفق والرقبة... تنهد وتمتم بصوتٍ لا يكاد يسمع:

- يبدو أنه قد تعرض لأزمةٍ قلبيةٍ حادة...

صمت الطبيب، ثم أردف بخشوعٍ، وهو يمسح بكفه على عيني الغريب:

- لقد مات...

علا من حولهم بكاء من بكى، وأحدهم خبط بقبضته على سطح طاولته بألم، محاولاً - كما تخيل -  إفزاع ملاك الموت الذي شعر به يتجول بهدوءٍ وغرور بين طاولات المطعم. استدار الطبيب إلى النادلة وسألها:

- هل تعرفين اسمه يا ابنتي؟

لم يكن لديها ولا ذرة قوة تعينها على التحدث، فأجابته بأن رفعت حاجبيها من فوق عينيها المذهولتين والتائهتين، وقد جثم على لسانها جبلٌ ثقيل.

أكفٌ كثيرة غاصت تحت الجثة التي نعتها العيون بأن نكست نظرها للأسفل، ثلةٌ من الرجال حملوه على أكتافهم بهدوءٍ أخرس، ومضوا بصمت إلى خارج المطعم، ليخرج معهم كل من كان في الداخل. خلال ثوانٍ تحول المطعم المتواضع لمكانٍ مهجور. لم يبق داخله أحد سوى النادلة والعجوز، التي راحت مع عويلها الذي يكاد يخنقها بجمع الأطباق والكؤوس عن الطاولات.

انهارت النادلة لتهوي كغصنٍ مكسورٍ على كرسي الغريب ذاته، صدفةً تناهى لأذنها نحيب كمانٍ صدح به المذياع.

بعد دمعةٍ أولى سالت بوحشةٍ على خدها، التقطت بأصابعها التعبة رسالتها عن الطاولة. وفتحتها لتتأملها، على صدى أزيز باب المطعم وهواء الخريف يعبث به.

نحيب الكمان، عويل العجوز، قرقعة الأطباق والكؤوس أثناء رصفها فوق بعضها بعضاً بشكلٍ عشوائي، أزيز الباب. هي الأشياء التي راحت تعزف لأذنها موسيقى عبثية، فشرعت - عن غير قصد - بقراءة كلمات رسالتها بصوتٍ عالٍ. خُيّل إليها ومن بين دموعها، بأنها تغني كلمات رسالتها بنشيجٍ له لحن، وكأن طيف الغريب قد جلس أمامها ليصغي بمتعةٍ لكلمات الرسالة... غنت رسالتها كما تغني الأغنيات التي تحبها، على إيقاع تلك الموسيقى العبثية... ثم - وروحها تحبو نحو اكتشافٍ جديد - شعرت خلال ثانيةٍ أشرقت فيها كومضة، كل الأغاني المغرمة بها دفعةً واحدة، كموجةٍ علت في رأسها.. شعرت خلال هذه الثانية، بأن تلك الأغنيات التي عشقتها في حياتها... هي في الأصل... كانت قبل أن تُغَنّى، رسائل حبٍ لغرباء لا أحد يعرف أسماءهم... غرباء، حياتهم تشبه سجائرهم، اشتعالٌ فاحتراق، ثم رمادٌ وانطفاء، وما بينهما بضع قبلاتٍ ارتجلت ببهاءٍ، وبهدوء.

تأملت طيف الغريب الواقف بجانب باب المطعم، متأبطاً روايته، لوحت له بكفها التي ارتفعت على مهل حتى صدرها مودعةً إياه بوهن، قبل أن يستدير ويمضي... وتمتمت بين دمعتين مالحتين:

ــ الله معك...   


دمشق: 2/4/2010

مصطفى تاج الدين الموسى

كاتب وصحفي ومسرحي سوري، مقيم في تركيا، صدرت له عدة مجموعات قصصية ومسرحية، حازت كتاباته على عدة جوائز أدبية، وترجمة إلى عدة لغات عالمية

فؤاد علوش
كلمات تشبه نسمة باردة في مساء حار تبرد الروح قبل الجسد،أشعر وانا أقرأ كتاباتك كأني أستمع لمعزوفة هادئه
الجمعة 1 أيلول 2023
رأيك يهمنا