"مخطط قرعي" وتقييد السلطة الرابعة

داخل "بنك الأهداف" الذي وضعته الحكومة الحالية نصب أعينها، نجد الاعلام الإسرائيلي وخاصة هيئة البث العامة والصحافة الليبرالية. وجدير بالذكر أن الاعلام الإسرائيلي عادة ما يرتدي ثوبين مختلفين: الأول، ثوب الاعلام المجنَّد الذي يسعى لتنفيذ سياسات الحكومة، والحفاظ على النظام الاجتماعي القائم وتوحيد الجمهور خاصةً في فترات الأزمات كالحروب والأوبئة. أما الثاني، فهو ثوب الحارس، أو كما يدعى "كلب حراسة الديمقراطية"، وفي هذه الحالة يمارس الإعلام دوره في مراقبة وانتقاد السلطات الحاكمة.

يبدو أن دور وزير الإتصالات د. شلومو قرعي هو تحييد الدور الثاني للإعلام الإسرائيلي عبر نزع أظافر كلب الحراسة هذا وتحويله إلى حيوانٍ أليف لا يشكل تهديدًا على صاحبه.

يوم 17.7.2023 عرض قرعي النسخة الأحدث من مخططه لتغيير ملامح الصحافة في إسرائيل، والذي يشمل اغلاق السلطة الثانية للإذاعة والتلفزيون، وتبديلها بجسم مراقب تحت سلطة الحكومة، إلى جانب تغييرات أخرى تحت شعار تشجيع المنافسة وزيادة التعددية في الاعلام. ويذكر بروفيسور أمل جمّال في حديث خاص مع "فارءه معاي" أن المخطط غير واضح حتى الآن، إلا أنه يركز على تسهيل دخول لاعبين جدد إلى السوق الإعلامي بحيث يجعل اغلاق السلطة الثانية وافتتاح جسم اعلامي أمرًا متاحًا للجميع. هذه التنافسية المطلقة، كما يقول جمّال "تنقل ثقل القرار إلى ايدي المشاهدين، بفضل تحديد مدخولات القنوات الإعلامية وفقا لنسب المشاهدة (الريتينغ). بالنسبة لقرعي يهدف الامر لكسر ما يصفه بالمونوبول او الاحتكار في الاعلام الاسرائيلي. هذه الخطوة لها تأثيران ممكنان، أولهما زيادة قوة اللاعبين الكبار في الساحة الاعلامية واضعاف الاجسام الاعلامية الصغيرة، والثاني هو زيادة المتنافسين على كعكة الاعلانات وبهذا قد يخسر الجميع، حيث سيحتكم المدخول إلى عدد المشاهدات."

ومن مراجعة سريعة لارتدادات "مخطط قرعي" بأوساط المحللين والمراقبين السياسيين، يبدو أنه يسعى لتقوية الاعلام اليميني على حساب غيره عبر عرض ميزات وتسهيلات لـ"قناة "14 المؤيدة للحكومة، من خلال تغيير آلية تمويل الاعلام، إضافة إلى دعواته المتكررة لالغاء البث العام تارة، واضعافه تارة أخرى.

في الخلاصة، إن وسائل الاعلام الإسرائيلية اليوم تواجه مصيرًا غير واضح مع وزير يطلق شعارات لتبرير خطة إصلاح بادعاءات شعبوية، تفندها الأبحاث وذوي الخبرات، ويشكل توجهه خطرًا على مصداقية الاعلام ومهنية الإعلاميين. بل أن تصريحات قرعي، كغيره من الوزراء في حكومة نتنياهو السادسة، تظهر كأنه يحاول ان يغير موازين القوى ويدفع بمن اعتبر حتى اليوم شعبويًا، متطرفًا وخارجًا عن الاجماع العام، إلى صانع القرار في مسألة صياغة الوعي والتوجهات العامة في البلاد.

بعد هذه المقدمة يمكن ان نسأل أين الفلسطينيون من كل هذا المخطط؟ وهل ستؤثر تغييرات قرعي على الاعلام الفلسطيني في إسرائيل؟ وفقًا للمعطيات الاخيرة نجد أن إعتماد الفلسطينيين في استقاء المعلومات وتلقي الاخبار يقع على مواقع الانترنت وشبكات التواصل، خاصة واتساب، إلا أن ثقتهم ما زالت في الإعلام التقليدي كمصدر للأخبار الهامة. والسؤال هو كيف ستبدو التغطية الاخبارية في ظل التنافس الشديد وسهولة دخول لاعبين جدد لهذا السوق الضيق أصلا؟

على الرغم من تنويه قرعي أن الجسم الحكومي المقترح لن يبت في مضامين المواد الاعلامية. فان منح الصلاحيات لجسم سياسي لاتخاذ القرارات في هذا الشأن، سيصعب على الاعلام الفلسطيني عرض رواية تتحدى تلك الإسرائيلية، ليس فقط في الشؤون السياسية التقليدية كالرواية التاريخية والذاكرة الجماعية، بل حتـى في شؤون يومية كتأطير الجريمة والعنف أو قضايا تقسيم الموارد والمناهج الدراسية، في سياقها السياسي الأوسع. الخطورة الثانية لمخطط قرعي، كما توضح الباحثتان آيه يدلين وأورنيت كلاين-شجرير، هو في زيادة التنافسية بين وسائل الاعلام على عدد المشاهدات مما قد يؤدي إلى عرض محتويات سطحية وضحلة لا تثير الجدل منعًا لخسارة المشاهدين. لنجعل المثال هنا من عالم الاعلام الفلسطيني في إسرائيل: في حال تغطية جريمة قتل سيحتاج الصحفيون إلى معلومات وصور تشد إليهم المشاهدين والمستمعين، لتحقيق ذلك لن يتوجه الصحفي إلى خبير بشؤون الاجرام الذي قد يكلفه جهدًا ووقتًا لإجراء مقابلة حول دور المؤسسات المختلفة في منع الجريمة؛ عوضًا عن ذلك، سيحاول الوصول إلى أكثر الصور دموية وأكثر التفاصيل المثيرة، وقد يجتهد الصحفيون لإجراء مقابلة مع والدة الضحية قبل دفن ابنها باطار السباق على الخبر الأول والحصري، على الرغم من أن التصوير المفصل للجرائم له مردود سلبي على الكثير من المستويات كما نعلم، لا سيما في زيادة احتمالات تكرارها.

يمكن الادعاء أن معظم المؤسسات الإعلامية الفلسطينية في إسرائيل لا تتبع السلطة الثانية للإذاعة والتلفزيون، وعليه فهي لا تتأثر بالمخطط المقترح. هذا الادعاء خاطئ، باعتقادي، لسببين: الأول، هو أن الاعلام الفلسطيني والإسرائيلي في إسرائيل يغذيان بعضهما بعضًا فيما يتعلق بتغطية قضايا المجتمع الفلسطيني، والثاني، إن التغييرات في أنماط التغطية عادة ما تكون عامة وتؤثر على كافة وسائل الاعلام وتقودها المؤسسات الاعلامية الكبرى.

 صباح يوم 26.9.2023 تستضيف إذاعة الجيش الإسرائيلي وزير الإتصالات الإسرائيلي قرعي لحديث حول مضايقات تعرض لها مصلون يهود في "يوم الغفران اليهودي" على خلفية منع ممارسة صلوات منفصلة بين النساء والرجال. يصرّ قرعي مرة تلو الأخرى على أن الصدامات كانت بين يهود و"كارهي إسرائيل". ربما تكون هذه من أخطر وأهم تفوهات قرعي التي تلخص التوجه الحالي في السياسة والمجتمع الإسرائيليين. يلخص وصف قرعي لحدث الاعتراض على الصلاة المنفصلة توجهه منذ دخوله الكنيست قبل نحو أربع سنوات وتوضح دوره إلى جانب دور أعضاء كنيست ليكوديين متشددين آخرين أمثال ميري ريغف، دفيد بيتان، اوسنات مارك وغيرهم، في لعبة صمود نتنياهو وتذليل كافة العقبات أمامه للبقاء في سدة الحكم؛ ودور قرعي بالتحديد هو ذلك المتعلق بإضعاف الاعلام الإسرائيلي ووضعه في خانة واحدة مع أجهزة الاعلام في الدول غير الديمقراطية كبولندا وهنغاريا وغيرهم من الدول التي شهدت تراجعا في قيم حقوق الانسان والمبادئ الديمقراطية وفي مقدمتها حرية الصحافة والتعبير عن الرأي. فاذا اعتبر صاحب مخطط "إصلاح الاعلام" قرعي معارضي معتقداتٍه الدينية والسياسية بأنهم ليسوا يهودًا، فما بالك ما يفكر به حول الفلسطينيين وحقهم في المعرفة والتعبير عن الرأي؟!


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

د. عائشة اغبارية

باحثة في مجال الاعلام والهوية لدى الفلسطينيين في إسرائيل. زميلة بحث (بوست دكتوراة) في الجامعة المفتوحة

شاركونا رأيكن.م