"المحكمة العليا" والتماسات "حجة المعقولية": امتحانٌ لشريكٍ مركزيّ في المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع!
من الصعب جداً التكهن بما سيستقر عليه رأي "محكمة العدل العليا" النهائي والقرار الذي سيصدر عنها في الالتماسات ضد التعديل رقم 4 الذي أقره الكنيست على "قانون أساس: القضاء"، والذي يعني فعلياً تقليص "حجة المعقولية" (وليس إلغاءها، كما سنبين أدناه). وما يصطلح على تسميتها بـ "حجة المعقولية" (أو: "حجة عدم المعقولية"؛ أو: "اختبار المعقولية") هي إحدى الحجج/ الاختبارات القضائية في مجال القضاء الإداري التي تتيح للمحاكم ممارسة الرقابة القضائية على أيٍّ من قرارات وممارسات أي ذراع من الأذرع السلطوية الإدارية، شخصاً كانت أم مؤسسة؛ تفحص مدى معقولية هذه القرارات والممارسات ثم تأمر بإلغائها في الحالات التي ترى أن عيوباً إدارية قد وقعت في سيرورة اتخاذها، مثل انعدام الصلاحية (لاتخاذ تلك القرارات وتنفيذ تلك الممارسات العينية)، التعسفية، الاعتباطية، عدم الأخذ في الحسبان اعتبارات سليمة وذات صلة، الأخذ في الحسبان اعتبارات غريبة وغير ذات صلة، عدم الموازنة ـ أو الموازنة غير اللائقة وغير الكافية ـ بين الاعتبارات السليمة وذات الصلة، المسّ المحظور بالحقوق، التمييز، الإجراء غير السليم وغير ذلك من العيوب الإدارية، مما يضع تلك القرارات والممارسات خارج نطاق المعقولية.
الاحتمالات الموضوعية المتاحة أمام المحكمة الآن هي أربعة أساسية: قبول الالتماسات بشكل تام وإلغاء التعديل القانوني إلغاءً كلياً؛ رفض جميع الالتماسات رفضاً تاماً والإبقاء على التعديل القانوني كما هو؛ إلغاء التعديل بصورة جزئية، وخاصة الجزء منه الذي يمنع المحكمة من التدخل في قرار الحكومة عدم ممارسة أيّ من صلاحياتها مما سيعود بضرر مباشر على مواطن ما أو مجموعة من المواطنين. وإذا ما اختارت المحكمة هذه الإمكانية، فمعنى ذلك أنها لن تتمكن بعد الآن من ممارسة الرقابة القضائية بحجة عدم المعقولية على الكثير جداً من قرارات الحكومة والوزراء. وثمة إمكانية رابعة هي أن تقرر المحكمة تأجيل بدء سريان هذا التعديل القانوني إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في إسرائيل.
كانت بدايات ابتكار وتطوير هذه الحجة في القضاء البريطاني ومنه انتقلت إلى منظومات قضائية أخرى تأثرت به، من بينها منظومة القضاء الإسرائيلية. وفي صيغتها الإسرائيلية، بدأت "حجة المعقولية" تترسخ وتتوسع ابتداء من ثمانينيات القرن الفائت من خلال المحكمة العليا الإسرائيلية وبواسطة سلسلة من قرارات الحكم القضائية التي صدرت عنها، في سياق ما يُعرف في إسرائيل بـ "الفاعلية القضائية". بهذا المعنى، تشكل "حجة المعقولية" أحد الكوابح الحيوية المركزية، إن لم يكن أكثرها حيوية ومركزية على الإطلاق، في وجه التعديات السلطوية، الفردية والمؤسساتية، على سلطة القانون، على مبدأ سيادة القانون والمساواة أمام القانون وعلى حقوق الإنسان والمواطنين عموماً.
في يوم 24 تموز الأخير، أقرّ الكنيست بالقراءتين الثانية والثالثة، بأغلبية 64 عضواً ودون أي معارضة عقب مغادرة جميع أعضاء الكنيست من أحزاب المعارضة قاعة الكنيست عند التصويت، التعديل رقم 4 على "قانون أساس: القضاء"، بالنص التالي: "بعد البند الصغير (د) يأتي: "(د1). على الرغم مما ورد في قانون الأساس هذا، فإن من يملك صلاحية القضاء بموجب القانون، بما في ذلك المحكمة العليا لدى التئامها كمحكمة العدل العليا، لا ينظر في موضوع معقولية قرار صدر عن الحكومة، رئيس الحكومة أو أي وزير آخر ولا يُصدر أمراً في الموضوع المذكور؛ في هذا البند: "قرار" ـ هو أي قرار، بما في ذلك في قضايا التعيينات أو الامتناع عن ممارسة صلاحية ما، أياً كانت".
هذا هو النص النهائي الذي أقرّه الكنيست لتعديل "قانون أساس: القضاء"، والذي يعني فعلياً: تقليص "حجة المعقولية" (وليس "إلغاءها"، كما تردد خطأ في العديد من وسائل الإعلام المختلفة، بما فيها الإسرائيلية أيضاً). فقد أسقط الائتلاف الحكومي من مشروعه التعديليّ هذا الجملة الأخيرة التي ورد فيها "وكذلك (قرارات) أي منتَخَب جمهور آخر، كما يحدد القانون". وشكّل إسقاط هذه الجملة الفارق الجوهري بين "إلغاء" حجة المعقولية و"تقليصها". ذلك أن النص الذي اعتمده الكنيست أخيراً هو تقليص الحجة، بمنع استخدامها/ تطبيقها في ممارسة الرقابة القضائية على قرارات الحكومة، رئيس الحكومة وأي من وزرائها، وليس إلغاء الحجة نهائياً، بمنع استخدامها وتطبيقها في ممارسة الرقابة على قرارات آخرين من مُنتخَبي الجمهور، وخصوصاً رؤساء البلديات والمجالس المحلية.
إسقاطات متشعبة، أبرزها وأخطرها
العاصفة القوية جداً التي يثيرها التعديل القانوني بشأن تقليص "حجة المعقولية"، على مختلف الأصعدة، الجماهيري ـ الشعبي، السياسي، القضائي، الأكاديمي، الاقتصادي وغيرها، مردُّها ليس كون تقليص "حجة المعقولية" (إلغاؤها، وفق المخطط الأولي) جزءاً من المكوّنات الأربعة الأساسية التي يشملها "برنامج الإصلاح القضائي" الذي طرحته الحكومة الجديدة وائتلافها البرلماني، بينما يسميه المعارضون "برنامج الانقلاب القضائي" أو "برنامج الانقلاب على الحكم"، وإنما ـ بالأساس ـ نظراً لما يشرّعه هذا التعديل/ التقليص من بوابات واسعة نحو المزيد من التقليصات الحادة والخطيرة في آليات الرقابة القضائية، بل في المنظومة القضائية برمّتها، بما يعجّل في تكريس وتعميق الفساد السلطوي المنهجي والرسمي، بما في ذلك قرارات وممارسات التطهير السياسي والتصفية الشخصية، مقابل التعيينات السياسية والشخصية، في الأذرع السلطوية المختلفة، ناهيك عن توسيع وتعميق التقليصات في حقوق الإنسان والمواطن والتعديات الرسمية المنهجية على هذه الحقوق، وبشكل خاص بالتأكيد حقوق الأقليات على اختلاف أنواعها، لكن الأقلية القومية ـ العربية الفلسطينية ـ بشكل أساس ومباشر.
غير أن لتقليص "حجة المعقولية"، بشكل خاص، كما للمركّبات الأخرى في "برنامج الإصلاح القضائي" الذي تواصل الحكومة الحالية وائتلافها البرلماني العمل على استكمال إقراره وتنفيذه، انعكاسين مباشرين على مستوى العلاقة مع الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة ومستقبل هذه المناطق، عموماً.
الأثر الأول يتمثل في ما يخطط له الائتلاف الحكومي الحالي، أو أجزاء واسعة منه على الأقل، جهاراً، نحو ضم الضفة الغربية وبسط السيادة الإسرائيلية عليها بصورة رسمية، تكريس الفوقية اليهودية في جانبي ما يسمى "الخط الأخضر"والإمعان في دوس حقوق الفلسطينيين، الجماعية والفردية، وجعل الأبارتهايد نظاماً رسمياً معتمَداً ومكرَّساً في كامل المنطقة الممتدة بين النهر والبحر. ذلك أن تقليص "حجة المعقولية" سيحول دون أي تدخل قضائي في أي قرار تتخذه الحكومة أو رئيسها أو أي من وزرائها في هذا الشأن وهذا المنحى.
أما الأثر الثاني فيتمثل في جانب معاكس تماماً، قد يكون إيجابياً تماماً في الجوهر والمحصلة. والمقصود هنا هو القلق والتخوف الكبيران اللذان يساوران في إسرائيل العديد من القيادات السياسية، الأمنية والعسكرية، السابقة والحالية، إضافة إلى أوساط قضائية واسعة، وهما المتعلقان بتقليص دوائر الحماية للجنود والقادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، في السابق والراهن، في هيئات قضائية دولية، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
فقد نجحت إسرائيل، حتى الآن وإلى حد كبير جداً، في تجنّب مُحاكمة جنودها وقادتها السياسيين والعسكريين في محكمة الجنايات الدولية بشكل خاص أو في محاكم جنائية في دول أخرى مختلفة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، عبر ادعائها الرسمي بأنها تطبق مبدأ "التتام (Complementarity) "، الذي يشكل شرطاً مركزياً للإعفاء من المحاكَمة الدولية. ويقضي مبدأ "التتامّ" هذا بأن لدى الدولة المعنية ـ دولة القادة السياسيين أو العسكريين المشتبه بارتكابهم جرائم حرب ـ جهازاً قضائياً مستقلاً وقادراً على التحقيق في هذه الشبهات بصورة جدية وموضوعية. تصبح المحكمة الجنائية الدولية صاحبة صلاحية لإجراء محاكَمات جنائية بحق مشتبه بهم بارتكاب جرائم دولية (جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، إبادة شعب وجريمة العدوان) إذا ما توفرت بضعة شروط، في مقدمتها الموافقة على الإجراء الجنائي من جانب دولة معنية (عادة ما تكون الدولة التي نُفِّذت الجرائم في نطاقها وفوق أراضيها، فلسطين في حالتنا) أو مصادقة مجلس الأمن الدولي على الإجراء الجنائي. غير أن المحكمة تفقد صلاحيتها هذه، وتمتنع بالتالي عن اتخاذ إجراءات جنائية، إذا كان الجهاز القضائي في الدولة ذات الشأن (إسرائيل، هنا) يقوم بالتحقيق في الأحداث موضع الشبهات بصورة جدية وموضوعية، بل وتجري ـ في الحالات التي تكتمل فيها شروط محددة ـ محاكمات جنائية للمتهمين الضالعين في ارتكاب الجرائم، شريطة أن يكون هذا الجهاز القضائي وأداؤه مستقلّين، موضوعيين، ناجعين وخاليين من أية تأثيرات غير سليمة. وهو ما ينسفه تقليص "حجة المعقولية" من أساسه.
ومن الواضح تماماً أن أي قرار تتخذه المحكمة العليا في نهاية المطاف سيُقابَل بالرفض القاطع والمعارضة الشديدة من جانب قطاع واسع جداً من الجمهور الإسرائيلي، سواء المؤيدين لبرنامج الحكومة أو المعارضين له، المؤيدين لتدخل المحكمة العليا ودورها الفاعل والمؤثر أو المعارضين له، ناهيك عن احتمال رفض الحكومة الالتزام بقرار لا يروق لها ولا ينسجم مع مخططها، وهو ما ستكون له ـ في كل الأحوال ـ تداعيات كثيرة ومختلفة وبعيدة الأثر على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل، بكل تفاصيلها، وعلى مستقبل ما يُسمى بـ "الديمقراطية الإسرائيلية". ولكن، لا بد من القول إن "المحكمة العليا الإسرائيلية"، التي حُشِرَت الآن رغماً عنها في هذه الزاوية عبر تحميلها وزر هذه المهمة التاريخية المتمثلة في مسؤولية الحسم بشأن الالتماسات وموضوعاتها، في هذه اللحظة التاريخية من حياة الدولة الإسرائيلية تحديداً، سوف تتصرف، كما تصرفت على مدار أكثر من سبعين سنة منذ تأسيسها ـ كأعلى هيئة في الجهاز القضائي وراسمة مساره ـ باعتبارها شريكة أساسية في كل ما مورس من سياسات إسرائيلية رسمية، على الصعيدين السياسي والأمني تحديداً وفي المستويين المحلي والخارجي، مما جعلها بالتالي شريكة أساسية في المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع في هذه الدولة، من خلال أدائها القضائي على مدى عقود عمرها والتزامها المتشدد، أساساً، بأقصى درجات "الحذر" الممكنة، وغير الممكنة في كثير من الأحيان، حفاظاً على موقعها ومكانتها في قلب "الإجماع القومي"، الإسرائيلي الصهيوني، في كل ما يخص الممارسات الإسرائيلية الحكومية والرسمية في القضيتين المركزيتين الأكبر والأخطر: الاحتلال ومشروعه الاستيطاني، بكل ما ارتكبه ويرتكبه من جرائم وموبقات، والتمييز والاضطهاد على أساس إثنيّ ـ قوميّ بحق الفلسطينيين الذين أصبحوا أقلية قومية في وطنهم.