تطبيع مع أنظمة مُستبدة ... وتحقير للشعوب

حفلة التطبيع الجديدة مع السعودية تؤكد المؤكد في الكثير من جوانبها، ومن ضمنه أنظمة الاستبداد العربي كانت وستظل الحليف الإقليمي الأقوى لإسرائيل وللمشروع الصهيوني في فلسطين، وهو ما تتأمله هذه السطور. بعيدًا من مقاربات النقد الناعم و"تفهم" الضرورات المصلحية لهذه الدولة أو تلك، والسماجة المركبة التي يحملها ادعاء مقولة "هذا قرار سيادي"، التطبيع الذي شهدناه، مع الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسودان، والآن المفاوضات جارية بتسارع مع السعودية، هو في الجوهر تطبيع دولة احتلال استعمارية وفصل عنصري مع أنظمة مُستبدة (وليس مع دول أو شعوب أو بلدان). المدخل الوحيد لفهم التطبيع هو أن دوائر المطبعين من الطرفين ينتمون إلى ذات النادي، ويمارسون سياسات متشابهة حيث تتماهى التبعية للخارج الاستعماري مع الاستبداد الداخلي. هذا الجوهر بمجمله لن تُناقشه الأصوات التي قفزت وتقفز على المنصات الإعلامية وتتغنى بالخضوع التطبيع للأنظمة كأنه بطولات خارقة. إذا أردنا ان نرى الأمور كما هي من دون رتوش ولا تلوين لتخفيفيهِ، فإننا دخلنا عصر القيادة الإسرائيلية للعرب والإقليم.

إسرائيل هي صاحبة القرار الأول، ولا يستطيع نظام عربي أن يسلح جيشهِ مثلًا كما لن يستطيع التنقيب عن الغاز في مياهه الإقليمية، وبالتأكيد لن يملك قرار حسم نزاعاً حدوديا مع جاره العربي، أو حتى إزالة اسمهِ من "قائمة الإرهاب"، إلا بموافقة إسرائيلية. من العيب مثلاً، إن صح ما حملته التقارير مؤخرًا، أن يكون تسلح السعودية وبنائها مفاعلاً نووياً سلميا، مرهونين بموافقة وتنسيق وربما إشراف إسرائيلي. طبعاً، يشتغل إعلام النفاق الذي تسيطر عليه هذه الأنظمة، قنوات وصحف ومنابر فضلا عن منصّات الذباب الالكتروني، وبالتحالف مع شبكات إعلامية أمريكية وغربية كبرى، في تسويق حفلات التطبيع عبر مشهدية هوليودية تنسخ حفلات تسليم جوائز الأوسكار، أو نوبل. المشهدية التأثيرية الضخمة يُقصد منها إخفاء البشاعة والدمامات بتنوعاتها: بشاعة ولا-إنسانية الاستعمار والفصل العنصري والقتل اليومي في جانب إسرائيل، وقبح الجوهر القمعي الدكتاتوري القائم على حكم الفرد الواحد ونزعاته وقراراته، في جانب الأنظمة العربية المُطبعة. 

خلال الأشهر الماضية كانت الولايات المتحدة وإسرائيل هما مصدر كل الاخبار والتقارير والتسريبات حول التطبيع مع السعودية، وغابت هذه الأخيرة تماماً: الساسة، والاعلاميين وصناع القرار، وكأن كل ما يُقال لا يعنيها. بين الفينة والفينة قد يصدر تصريح غامض يتعلق به المتفائلون، وأيضاً الآملين أن تحدث معجزة ما في آخر لحظة ويرى صانع القرار أن بلدا مركزيا كالسعودية، بقدراته، ورمزيته، وطاقته المستقبلية لا يحتاج إسرائيل، بل إن هذه الأخيرة ومعها أمريكا يجب ان تركضان خلف السعودية. النقطة هنا هي أن الصمت الذي صار يحكي الكثير كان هو الخطاب الرسمي السعودي، إلى أن جاءت مقابلة ولي العهد مع قناة فوكس الامريكية اليمنية هذا الأسبوع، لتحسم الأمور: التطبيع حاصل، والمسألة مسألة وقت، والمساومة على الشروط، ولفلسطين والفلسطينيين يكفي "تحسين حياتهم" تحت الاحتلال!  

والسؤال الكبير هنا، وما يتفرع عنه، كما السؤال في كل حالة تطبيع مع الأنظمة العربية منذ نظام السادات وكامب ديفيد، مروراً بالأردن ووادي عربة، ثم السلطة الفلسطينية وأوسلو، هو التالي: من يتخذ القرار في مسألة بالغة الخطورة كالتطبيع مع إسرائيل وكيف؟ وأين هي الشعوب، ولماذا لا تُستشار، وما هي آليات اتخاذ القرار، جماعيا، وبرلمانياً، وحكومياً؟ أين الشعب الاماراتي، والبحريني، والمغربي، والسوداني، والآن السعودي، وقبلهم جميعا الفلسطيني، من هذه القرارات المصيرية؟ لماذا تُعامل الحكومات شعوبها كقطعان رأيها مُحتقر، وما تُفكر به لا يستحق الاهتمام؟ لماذا تمرّ قرارات التطبيع على كل "آليات الديمقراطية" في إسرائيل وحتى في الولايات المتحدة، ويتم تشريحها والتفصيل في إيجابياتها وسلبياتها، ثم إقرارها عبر أدوات الأغلبية والقرار الجماعي، بينما أنظمتنا العتيدة تستخف بشعوبها، ولا تراها وكأنها غير موجودة اصلا؟

في إسرائيل والولايات المتحدة والغرب يحفل الإعلام بنقاشات كثيفة وحادة حول التطبيع الإسرائيلي - السعودي. في إسرائيل يتجادل السياسيون والأحزاب من يمين اليمين الى يسار اليسار (أن بقي أصلا شيء من هذا القبيل)، حول محتوى هذا التطبيع وما لا يجب أن توافق عليه إسرائيل من شروط، وأهمية المحافظة على ضمان تفوقها النوعي في المنطقة. هناك أصوات عديدة تعارض التطبيع حتى مع السعودية إذا تضمن تنازلات تمس جوهر "العقيدة الأمنية" الإسرائيلية. سوف تتطور هذه النقاشات وتزداد حدة سواء داخل الأحزاب أو الكنيست الإسرائيلي فضلا عن سخونتها الراهنة في الإعلام. في أمريكا أيضا يناقش سياسيو الحزبين الحاكمين هذا التطبيع وتفصيلاته وزمنه الأفضل، وكيفيات تسهيله وتشجيعه والتلاعب في توقيته بحيث يخدم هذا الحزب أو ذاك، كما تخصص الصحف ومحطات التلفزة ندوات ولقاءات مطولة حول الموضوع. الكونغرس في نهاية المطاف سوف يناقش أي اتفاقية قادمة ويقرها او يرفضها وفق معيار أمن إسرائيل وتفوقها العسكري الذي يجب ان لا يُمس. إذاً، في إسرائيل وأمريكا معا، وعواصم أخرى في العالم أيضا، تشتعل نقاشات مطولة حول موضوع التطبيع مع السعودية بكافة تفاصيله، في الإعلام، وفي دوائر صناع الرأي والأكاديميين، وضمن الأحزاب، ومجالات الرأي العام، ولاحقا ضمن المؤسسات القضائية والتشريعية.

الطرف الوحيد الذي يلفه الصمت وغياب الحوار والنقاش حول أخطر قرار تتجه إليه السعودية، بثقلها الرمزي والسياسي والديني، هو السعوديون أنفسهم. كأن ما يحدث لا يعنيهم، وممنوع عليهم أن يبدوا الرأي فيه، ما عدا طبعا الأصوات المؤيدة المسموح لها التهليل والتطبيل لهذا التوجه. هل السعودية والسعوديون هم الذين يطبعون، أم الطبقة الحاكمة فقط؟ هل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان هي التي طبعت مع إسرائيل، كشعوب وأوطان، أم هي الأنظمة الحاكمة؟

إسرائيل وأمريكا والغرب أيضا يرتاحون دوما للتعامل مع أنظمة ديكتاتورية في العالم العربي: أنظمة الفرد الواحد، لأن هذا الفرد ونظامه يكون بحاجة ماسة لدعم خارجي، وعلى استعداد لتقديم كل التنازلات مقابل ذلك، وعبر قرارات انفرادية لا تمر بأية آليات رقابة أو محاسبة أو ديموقراطية. يستطيع هذا الفرد عبر الاستبداد والحكم القمعي أن يمنح أمريكا أو أية دولة أخرى، امتيازات هائلة، أن يوفر لهم قواعد عسكرية، أو يخفض أسعار النفط، أو يقطع علاقة بلاده مع هذا الطرف او ذاك، بقرار واحد وعلى الهاتف. ويستطيع هؤلاء أن يحسموا قرار التطبيع مع إسرائيل بنفس الآلية الانفرادية، بعيدا عن رأي الناس، ومشاعرهم، وقيمهم، ودينهم، وتاريخهم، ومصالحهم. مصائر شعوب الشرق حُسمت عبر قرارات أو إملاءات خارجية "على الهاتف" اتخذها دكتاتوريو المنطقة. لذلك، كانت إسرائيل وقادتها من أكثر الأطراف تخوفا من بدايات الربيع العربي، لأنه كان "مُبشرا" بانتزاع الشعوب العربية حريتها من حكامها (حلفاء الخارج!) والتعبير عن رأيها في مصائر بلدانها، وتحولها لتصبح مصدر السلطات و"القرار السيادي". كان ذلك، وكما عبر عنه آنذاك إيهود باراك وتسيبي ليفني، أسوأ كوابيس إسرائيل.  

خلاصة المشهد، بالأسود والأبيض ومن دون تجميل أو تنعيم في النقد، هو أن مصلحة إسرائيل تكمن في استمرار الدكتاتوريات العربية، مصالح وأمن إسرائيل مشروطة في عدم نجاح أي ديموقراطية عربية تستطيع الشعوب فيها أن تعبر عن رأيها في القرارات الكبرى، مصلحة إسرائيل أن لا تكون هناك برلمانات، ولا مجالس شعب، أو شورى، حقيقية في العالم العربي، لأن معنى ذلك بداية النهوض الحقيقي لهذه البلدان والمجتمعات على قاعدة الحرية والمشاركة وامتلاك القرار، لا ارتهانه. إسرائيل وتطبيعها مع الأنظمة العربية يعيش كلٌ منهما على غياب الحرية واستمرار الدكتاتوريات العربية وإسكات الناس.  


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

خالد الحروب

كاتب وأكاديمي فلسطيني

شاركونا رأيكن.م