السياسة الإسرائيلية هي هي رغم المبادرة السعودية!

خطاب بنيامين نتنياهو الذي عادة ما يكون تمثيليّة كاملة التفاصيل يكشف الحالة السياسية لإسرائيل كما رسمتها الحكومة الحاليّة. فالتعلّق بالأمل الذي تمثّله المبادرة السعودية هو شكل من أشكال هروب نتنياهو إلى أمام. فلننتبه إلى "الكلام الكبير" الذي قاله نتنياهو عن أن السلام مع العربية السعودية يعني تغيير وجهة الشرق الأوسط لأمد بعيد وما شابه من تضخيم للفكرة التي قد تشكّل بالنسبة له ـ إذا ما تحقّقت، حبل نجاة مربوط بدولابيْن، الأول، أمريكي والثاني، سعوديّ. هذا علمًا بأن احتمالات التحقّق لا أظنّها كبيرة لأسباب تتصل بوضع كل واحد من الأطراف، الرئيس الأمريكي جون بايدن، الشكوك السعوديّة في إمكانية الحصول على ما تريده من صفقة كهذه، واستبعاد أن يتمّ إقرار الصفقة في إسرائيل ضمن الائتلاف الحكومي الحالي ـ وهو موضوع مادتنا هذه التي نريد أن نخصّصها لتحليل الحاصل في إسرائيل من صراع حول طبيعة إسرائيل في ضوء الانقلاب القضائي الحاصل وتوازنات القوى داخل المجتمع اليهودي. وهو يبدو، مهما احتدمت النقاشات، في أقرب نقطة من تسميته كحالة استعماريّة.

النقاشات في إسرائيل جذريّة بين أنصار الانقلاب الدستوريّ وبين مناهضيه. وهي نقاشات تطال في حقيقة الأمر كل أوجه الحياة في إسرائيل وبالتفاصيل. وهي بين تيار صهيوني ليبراليّ النزعة (يمينيّ أكثر أو أقلّ) وبين تيار صهيوني جذري يسعى إلى تعطيل كل منظومات الليبرالية الإسرائيليّة مهما يكن، وطبع البلاد بميسم نزعة يهودية جذريّة مناهضة للفلسطينيين ولفكرة التسوية معهم، ومناهضة في الوقت نفسه لحقوق الإنسان والدولة المعقولة المرتبطة مع العالم بتفاهمات تؤهّلها الانضمام إلى نادي الأسرة الدولية في مراتبه العليا. ريثما يحصل الحسم تنفّذ القوى الاستيطانية الضاربة عمليات ترحيل للفلسطينيين وفرض حقائق ناجزة إضافيّة على الأرض لإجهاض إمكانيات أي تسوية تقوم على حلّ الكيانيْن بما فيها تسوية ما تترتّب عن المبادرة السعوديّة. ليس هذا فحسب، إذ إننا نتوقّع لجوء فصائل الصهيونية الدينيّة إلى التمرّد كلّما اقتربنا من إمكانية تمرير الصفقة مع السعودية.

يسود الاعتقاد في أروقة الكنيست في أوساط الائتلاف والمعارضة أن الحكومة الحالية لن تصمد أكثر، وإننا ذاهبون لانتخابات في الربيع المقبل. هذا يعني أن الأشهر القليلة القادمة ستكون حاسمة. لا أستبعد أن يشتدّ الضغط الأمريكي على المعارضة في إسرائيل كي تدخل في شراكة مع نتنياهو ولو لتمرير الصفقة مع العربية السعودية وهي صفقة يحتاجها السعوديون والرئيس الأمريكي الحالي الذي ينتمي إلى التيار نفسه الذي تنتمي إليه المعارضة الرئيسية في إسرائيل من خلال العرّابين الأثرياء في الولايات المتّحدة. وهي صفقة تُشكّل ماء الحياة لحملة بايدن الميّتة، وتراجعه الملحوظ في استطلاعات الرأي مقابل دونالد ترامب. سيتمّ الضغط على حزب غانتس - ساعر أن يقبلا تحالفًا مع نتنياهو والمتديّنين بديلًا للجناح اليميني الجذريّ ممثلًا ببن عفير وسموتريتش. وقد يقبلا في إطار العلاقة الاستراتيجية بين الإدارة الأمريكية الحالية (وأمريكا عمومًا) وبين إسرائيل الدولة العميقة أن يبلعا الضفدع - نتياهو - لكسب الصفقة السعودية وهي حبل نجاة لبايدن أكثر مما هي كذلك لإسرائيل. بمعنى ما، سنشهد ضغوطًا أمريكية شديدة على القوى السياسيّة في إسرائيل لقبول الصفقة السعودية. أما نتنياهو الذي بدا متحمّسًا للفكرة أمام قاعة خالية من الجمهور في مقرّ الأمم المتّحدة وفي حديثه بالإنجليزية للأسرة الدولية، فسيكون أقلّ حماسًا في الساحة الداخليّة خاصة مع شركاء لا يرحمون مثل سموتريتش وبن غفير اللذين يُهددان بأن أي خطوة نحو العربية السعودية ستعني نهاية حكومته والذهاب إلى الانتخابات. ولو سلّمنا أن نتنياهو سيحظى بدعم بديل من غانتس - ساعر فإن حياته معهما لن تكون سهلة بسبب من نزعة الثنائي سموتريتش - بن غفير لتفجير الوضع على الأرض من خلال أعمال عدوانية ضد الشعب الفلسطيني في الساحل وفي الجبل على السواء.

أرجّح أن السياسة الإسرائيلية المندفعة نحو حالة استعمارية مكشوفة - بدون الغطاء الليبرالي وخطاب الدمقراطية الإثنية - منذ إقرار قانون القومية في العام 2018 ستعيش على وقع قوتين متعاكستين في الاتجاه. الأولى، السعي إلى تمرير أكثر ما يُمكن من إجراءات وترتيبات الانقلاب الدستوري لخلق وضع غير قابل للتحوّل، والثانية، ضغط أمريكي غير مسبوق (على غرار الضغوط الأمريكية على المؤسسة الإسرائيليّة عشية انقاد مؤتمر "السلام" في مدريد، العام 1991) لقبول المبادرة السعودية بثمن إرجاء الانقلاب أو استبداله بائتلاف يُبقي لإسرائيل صورة مهضومة في المحافل الدوليّة. بين هذه وتلك سيكون دور لا يُمكن الاستهانة به لحركة مناهضة الانقلاب الدستوريّ وما يُمكن أن تصنعه كحركة جماهيريّة لا تُسقط من حساباتها خيار "العصيان المدنيّ". في هذه الحالة لن يكون بمقدور الفلسطينيين في إسرائيل أن يظلّوا في وضعية التريّث والانتظار. مثلًا، إذا دخلت نقابات الأطباء شريكة في العصيان لن يبقى الأطباء العرب خارج الصورة، وهكذا في قطاعات العمل والمرافق الأخرى.

على أيّ حال، فإن كلّ ما نشهده في هذا المحور سيكون مقدّمة لما سنشهده لاحقًا على محور الصراع الأساسيّ بين إسرائيل الرسمية وبين الشعب الفلسطيني الذي تحتلّه وتسيطر على أرضه وموارده وتتحكّم بحريّاته. فما يحصل من قتل يوميّ للفلسطينيين، ومن سلب أملاكهم هي جرائم تتراكم ردود الفعل عليها في الجماعة الفلسطينية وتتكثّف، ولا تلبث أن تنفجر كجزء من علاقات الشعوب الخاضعة للاحتلال والقهر بقاهريها، أي، إننا أمام سيناريوهات أهونها صعب ودمويّ.   


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

مرزوق الحلبي

حقوقيّ ومستشار استراتيجي ومنسّق المجموعة الفلسطينية في الداخل للتفكير الاستراتيجي ومتخصّص السياسة في دول الشرق الأوسط

رأيك يهمنا