بين خريفين – بداية واعدة ونهاية خائبة، وبداية جديدة؟

بين خريفي 2000 و2023 تغيرت أحوالنا جذريًا، وتحول وضعنا من انتفاضة حملت بذور الأمل والتي تبذر في الخريف لتنبت التجديد، إلى نهاية موسم الحصاد المر الذي ينبئ بنهاية تراجيدية لمشروع، وربما بداية لآخر، كل شيء ممكن، والأمور متعلقة بنا، فأما أن نتحول إلى بقايا شعب وهنود حمر وجودهم في وطنهم بلا معنى جماعي ووطني حقيقي، أو نجري انعتاق من تراث بائد إلى أمل متجدد من خلال إعادة الاعتبار لوجودنا الوطني كجزء حقيقي وكامل من شعبنا الفلسطيني، وليس فقط من خلال منصات الخطابات، أمامنا فرصة تفيد بإمكانية انتقالنا من حالة الانتهاء إلى حالة الانطلاق، والامر معقود علينا أولا، وقبل كل شيء.

سوف أبدأ ومباشرة في ادعائي الأساسي: الفلسطينيون في إسرائيل كحالة سياسية وطنية منفردة هم "حالة خاسرة" (Lost Case) ، وأعني أننا وصلنا إلى نهاية الطريق كمشروع مختلف عن باقي الفلسطينيين، ولم يعد أي منطق سوي يبرر الاستمرار في حالة التفرد والاختلاف عن باقي أبناء شعبنا، بصفتنا حالة سياسية مختلفة جذريا. لا أحد يستطيع أن ينكر الحالة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تميز الفلسطينيين في إسرائيل عن باقي المجموعات الفلسطينية، ولا نستطيع أن ننكر دور نخب سياسية عملت بالماضي في ظروفها، سلبًا وايجابًا، ودحرجتنا إلى هنا. فخيار التميز المنطلق من خيار الانفصال عن شعبنا وجعلنا "أقلية قومية" في إسرائيل كان خيارا سياسيا أنتجته ظروف النكبة عام 1948، وساهمت به عوامل مختلفة أهمها خيار القيادات. باختصار ومع حفظ تفاصيل كثيرة جانبا، كان خيار غالبية قيادة الحزب الشيوعي- وبشكل مختلف عنهم من قوى ربطت مستقبلها بإسرائيل مستسلمة لقدرها خلال النكبة وبعدها- وهو خيار تم اسقاطه من فوق من قيادة الاتحاد السوفييتي ورفضته قيادات جدية على رأسها مثلا إميل توما- هو ما أوصلنا إلى هنا، سلبا وايجابا.

الصفة المركزية لخيار الحزب الشيوعي، والذي أصبح تدريجيًا النص الأساسي لمشروع غالبية الفلسطينيين في إسرائيل ونخبهم وقياداتهم، كما انتقل إلى الفلسطينيين خارج الخط الأخضر، هو اعتبار الفلسطينيين في إسرائيل كجماعة "مختلفين" في سياقهم وخياراتهم الوطنية عن باقي الفلسطينيين، وتم تدريجيا صقل خياراتهم الاستراتيجية كمشروع المساواة المدنية، ومشروع دولة المواطنين، ومشروع الأقلية القومية، الخ... وقد تطور نضال الفلسطينيين في إسرائيل وتدريجيا إلى ان أصبحت المشاريع المذكورة نقاط إجماع وطني واسع، ساهمت به تطورات عالمية وإقليمية وفلسطينية وإسرائيلية. وقد ارتكزت هذه المشاريع على ادعاء يقول بان إقامة دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل سوف يحل المشكلة القومية للفلسطينيين في إسرائيل وسيساهم في تطبيع وضعهم، بما في ذلك مواطنتهم في الدولة اليهودية، وهو مشروع لا زال الكثيرون يتمسكون به كخيار ممكن، رغم استحالته المثبتة.

لقد وصل الإجماع حول هذه القضايا ذروته قبل أوسلو، إلا أنه تعزز بعد أوسلو، وأصبح أيقونه مركزية في الحديث عن تسوية تاريخية في فلسطين. جاءت انتفاضة القدس والاقصى نهاية أيلول وبداية تشرين الأول، خريف 2000، لتشكل نقطة تاريخية في ذاك المسار. اذ أتت المظاهرات العفوية آنذاك وانقضاض قوى الأمن الإسرائيلية عليها في سياق اندلاع الانتفاضة الثانية في الضفة وغزة والقدس وبطش الجيش الإسرائيلي بالمتظاهرين الفلسطينيين وعمليات المقاومة التي رافقتها، كذروة في سياق طال لسنوات وتكلل في تعمق مطلب المساواة للفلسطينيين في إسرائيل ومطلب الاستقلال الوطني للفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس. 

بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل انتهت المظاهرات في خريف 2000، بثلاثة عشر شهيدا ومئات الجرحى والمعتقلين، وقرار القيادة في لجنة المتابعة العليا في إيقاف المظاهرات والتأكيد مرة أخرى على "ظرفهم" المختلف عن السياق الفلسطيني العام، مع التأكيد على أن المشاركة الشعبية، والشباب بالأخص، مثلت نقطة انطلاق واعدة في مواجهة الدولة كيهودية ومسألة التفوق العرقي، وأذكر مقالا لعزمي بشارة نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية تقييما للتجربة، وتحت عنوان -عبر عن روح المرحلة آنذاك- "ما كان لن يكون"، بمعنى خروج المارد من قمقمه وانطلقنا كمجتمع ورفض الهيمنة والسيطرة واخضاعنا لإرادة التفوق العرقي. هنا اعترف بأنني كنت لا زلت أؤمن بهذا الطريق، وأننا يجب أن نجابه إسرائيل ونظامها المبني على التفوق العرقي بشكل مواز لنضال الحركة الوطنية الفلسطينية، بغير انخراط كامل به. وبعدها كنت ممن بادروا إلى صياغة وثيقة "التصور المستقبلي" للجنة المتابعة ورافقتها وثائق أخرى لنشطاء وجمعيات شكلت مشتركة منصة لتأكيد المنطق المذكور سابقا. الوثائق والتي سميت بوثائق "التصور المستقبلي" نسبة إلى عنوان الوثيقة الرئيسية تضمنت مقولات واضحة مثلت نضوج فكرة النضال ضد التفوق العرقي، لكن بشكل منفصل عن سياق التحرر الوطني من خلال إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة.

لقد استمر خطاب الاختلاف والتفرد متسلطا وحاكما حتى إلى يومنا هذا، وجعل الكثيرين منا، ومنهم أنا وزملاء لي، ان نكتب كتبا ودراسات حول تطور قدرات مجتمعنا، وحول جيل جدي من الشباب "منتصب القامة"، وحول تنظيم المجتمع المدني، ونمو نشاطنا وتنظيمنا السياسي الذي تكلل بإقامة المشتركة، وفي تعزيز الحكم المحلي، وغيرها من "إنجازات"، كلها لم تمنع انهيار مجتمعنا وتفشي العنف فيه وتجعل أحزابا لدينا تدخل في ائتلافات تعادي شعبنا وتنكل به، وتفاقم الفردية والانجرار وراء ليبرالية متوحشة تنسى أننا مجتمع أو مجموعة وطنية.

بعد ثلاثة وعشرين عاما، أي خريف 2023، نحن في وضع مختلف جذريا. ففي السياق العام لم تعد مسألة إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة أو ما يسمى مشروع الدولتين ممكنة أبدا. وإسرائيل توحشت نحو صعود قوى "نازية جديدة" إلى سدة الحكم، والحركة الوطنية انهارت، والسلطة تحولت إلى نظام وقيادة مساعدة لإسرائيل في السيطرة على فلسطين التاريخية. والأهم في سياق ال-48 هو انهيار كل المشاريع الاستراتيجية للفلسطينيين في إسرائيل بصفتهم مجموعة منفصلة سياسيا عن باقي الشعب الفلسطيني. فمشروع المساواة المدنية، ودولة المواطنين، والأقلية القومية، كلها انهارت ووصلت إلى آخر الطريق. صحيح أن السياسات الإسرائيلية لها دور كبير في هذا الوضع إلا أننا نتحمل مسؤولية كبيرة عن ذلك. فمسألة إخراجنا من حركتنا الوطنية الأم وبتعاون متبادل من قبل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادات شعبنا، أو غالبيتها على الأقل، كانت سببا مركزيا في تفاقم وضعنا وأضاعت بوصلتنا الوطنية والتفتيش عن خلاص فردي، وحتى جماعى خارج أي سياق وطني جمعي لعموم الفلسطينيين، باختصار أهم عوامل مأزقنا الحالي يكمن في انعدام مرجعية وطنية صلبة والاكتفاء بترديد شعارات "الانتماءات" للشعب الفلسطيني، مع الابتعاد عمليا عن بعدنا الوطني، الذي كان يمكن أن يكون صمامًا أمام مشاريعنا الوطنية الجماعية والفردية في آن واحد. 

وقد فاقم الوضع وقوف غالبية القيادات السياسية لدينا بعد أوسلو ضد تنظيم مجتمعنا، وضد اختيار لجنة متابعة مباشرة من الناس وضد خيارهم الديمقراطي في مسألة انتخاب القيادة، وضد مجابهة مسؤولة وشجاعة مع ظواهر تحلل مجتمعنا والإصرار على ان دولة إسرائيل -المسؤولة عن الخراب- هي من يجب أن يصلح الأمور، كلها عوامل أدت إلى انهيار قدرة مجتمعنا على التعامل مع نفسه وجواره كجماعة وطنية تستطيع ان تشق طريقها، كما نظر لها الكثيرون، بشكل منفصل عن باقي أجزاء شعبنا الفلسطيني.

كل ما قيل عن تفتت مجتمعنا وتحوله إلى فتات شعب، لا يغني عن صور تتكدس يوميا لكل من يدخل البلدات العربية -عدا استثناءات ضئيلة- فالفوضى والعنف هما سيدا الموقف، طبعا اعرف ان البعض سيذكرني بصور جميلة ومشرقة، ولا أنساها، بل كتبت عنها كثيرا، لكن في آخر المطاف ما تبقى هو صورة مرشحين للانتخابات المحلية القريبة، يعلقون ترشيحهم وينسحبون بعد تهديدهم وتهديد عائلاتهم، سوف نرى انتخاب رؤساء تعرف الأغلبية في بلداتهم بأنهم "رجال" عصابات الإجرام وأدواتها، سوف تستمر فوض الأعراس التي تهدم إمكانيات اقتصادية محدودة وتجعلنا نرقص ونأكل طوال أشهر طويلة بغياب أية ثقافة وطنية، وبتعمق الجهل الوطني جيلا بعد جيل، مما أدى إلى وجود طلاب فلسطينيين لدي في مساقي الجامعي عن الحركة الوطنية الفلسطينية لا يعرفون من هو جورج حبش مثلا، أو إين اندلعت أحداث يوم الأرض وما هو دور توفيق زياد، إلى آخره من عشرات الأمثلة الأخرى.

أهم تجليات هذا الانهيار الكبير هو إصرار قياداتنا ولجنة المتابعة على رأسها "بدعوة" نتنياهو لعلاج وتحمل مسئوليته عن تفشي العنف والجريمة، وهو قد يكون مطلب محق، إلا أنه يترافق مع إعفاء هذه القيادات نفسها من أية مسؤولية، وإصرارها على تذكيرنا بأن المجرم هو هناك "خارجي" وأن "الأسهم" يجب أن توجه تجاهه، داعية لنا لنقبل دعوتهم نتنياهو "لتأديب مجتمعنا" وأن ننسى دورهم هم، كما دور غيرهم من مثقفين وصحفيين ونشطاء، في الوقوف عمليا ضد تنظيم مجتمعنا ووصوله إلى حالة الفوضى، كي ننسى أننا جزءًا كبيرًا منهم ساهم في العنف والفوضى والفساد والإفساد والترزق على أبواب سلطة رام الله التي تدفع بسخاء لنشطاء وصحفيين ومثقفين لدينا رغم وضعها المالي التعيس، وأموال الدعم من مصادر صهيونية وأموال لا تأبه لقضايا مجتمعنا بقدر إصرارها على حماية صورة إسرائيل "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، كما التنظير للانخراط في حكومات إسرائيل للاستفادة "بما أمكن" وكأننا في عز موسم الحصاد. من يعتقد من القيادات بأن الناس لا ترى هذه التجاوزات وغيرها، وتقول بأن ما يحق "لقيادات" من تجاوزات، يحق لعموم الناس، وأن ذلك جزءا مهما في تفسير الخراب، فأنه لا ينظر لنفسه بشجاعة في المرآة.

باختصار، ويمكن التوسع بذلك كثيرا، بين خريفين، فقد فقدنا القدرة على الاستمرار في نظرية التفرد والاختلاف، وخسرنا قدرتنا على العمل الجماعي الوطني كحالة منفصلة، واستمرار لجوء البعض بشكل حصري لحكومة إسرائيل لإصلاح مجتمعنا هو كذلك جزء من جريمة ترتكب بحق مجتمعنا ومساهمة في استمرار الانحدار، وهو جزء من الصورة الكبرى التي تعني جوهريا بأن الفلسطينيين في إسرائيل كجماعة وطنية اصبحوا "قضية خاسرة" لا يمكن التعويل عليها ويجب أن يبادر لحل هذه الحالة والعودة إلى شعبنا وحركته الوطنية. 

جمعياتنا وأحزابنا ولجاننا وهيئاتنا الخاصة بال-48 ونشاطاتها كلها، قد تكون مهمة للقضايا اليومية، وقد تكون مضرة.. لكنها جميعا لا تستطيع الاستمرار في عملها المنفصل عن السياق الفلسطيني العام، وأن تعيد علينا اجترار مسألة خصوصينا وفرادتنا كفلسطينيين في إسرائيل، وهذا أمر مهم أن يتوقف لمن يريد فعلا مصلحتنا الجماعية، وليس مجرد الاستمرار لأجل الحفاظ على مصالح فلان أو علان.

الشرط الأساسي لأي مشروع مستقبلي ولأي حالة تفتت وانعدام القدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية كجماعة، يبدأ بمواجهة جدية لبناء أسس الهوية الفلسطينية الجمعية، التي أضحت تعاني من إعطاب أساسية بينّا بعضها آنفا، وذلك من خلال اعادة الاعتبار للقيم الرئيسية الجامعة للهوية الفلسطينية، كما كانت، نظريًا على الأقل، حتى النكبة، مع اضافة القيم التي تراكمت منذ ذلك الوقت، وأهمها معاني النكبة واللجوء والعودة والمساواة الفردية والجماعية، والتعويض، وإقامة مؤسسة فلسطينية جامعة، على نفس الأساس النظري لمنظمة التحرير، مع عدم الوقوع في فخ استثناء مجموعات جدية من الشعب الفلسطيني كما فعلت المنظمة وقيادات ال-48 عمليًا حتى اليوم.

بدل الاستمرار في حالة الانحدار والانتهاء إلى وضع فتات شعب مغلوب ومبعثر في وطنه، أمامنا فرصة تاريخية لإصلاح العطب الذي نجم عن النكبة، وخصوصًا إن حكومة إسرائيل اليمينية الفاشية تضع أمامنا فرصا لا يجوز أن نتجاهلها ونفلتها من أيدينا. الحل بعد وصولنا إلى هذا الخراب هو بالعودة إلى شعبنا ونضالاته، العودة لنشكل جزءا من مشروع وطني جماعي لعموم الفلسطينيين نحو انهاء حالة الاستعمار الكولونيالي والأبرتهايد في كل فلسطين، وذلك من انخراط كل الفلسطينيين، ومن يؤيدهم، في نضال واضح لتحويل فلسطين إلى وطن ديمقراطي يكفل العدالة والمساواة لكل من يختار ويحب أن يبقى هنا، بغض النظر عن انتمائه الاثني وعن هويته. 

إن المشروع الوطني الجامع المؤسس على وحدة الأرض والشعب والقضية هو البوابة لإعادة التكاتف بين أبناء شعبنا وإصلاح عرى العقد الاجتماعي بيننا، ووقوفنا، في غالبيتنا على الأقل، مع بعض، هذا هو الباب الوحيد الذي ما زال مفتوحا، وسياسات إسرائيل في تعميق التفوق العرقي والاستعمار، تستطيع أن تكون أداة نحو ذلك، وضرورة الوقوف ضد تحول القيادات الفلسطينية، هنا في ال-48 وفي عموم الشعب الفلسطيني، إلى أدوات إسرائيلية لتعميق سيطرتها. ومع توفر دعم شعبي في كل العالم للنضال ضد الاستعمار والتفوق العرقي في فلسطين، وتوفر قيادات ونشطاء فلسطينيين من الجيل الشاب خصوصًا، وإرادة وطنية قوية على المستوى الشعبي، نستطيع قلب الطاولة، نستطيع تغيير طريقنا، والعودة إلى الطريق الام، الذي قد ينجينا وغيرنا، مما وصلنا اليه.  

بروفيسور أسعد غانم

محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا وعضو "ملتقى فلسطين"

شاركونا رأيكن.م