“مَجموعة باور" فَن نفي المُستَحيل
قَبل عَشرة أعوام مَضَت، بدأت حِكاية شَغف وتَحَدٍّ، خَلقت حُلماً بِرَسم الحَقيقة حَمَل اسم "مجموعة باور"، خَطّ حُروفها الأولى نبيل حموز، وهو شاب فلسطيني حالِم بَحث كباقي الشباب الفلسطينيين المتسلحين بإراداتهم وقدراتهم بعد تَخَرُّجة بتخصص إنتاج الأفلام عن مكان يُمَكِّنه من تسجيل أغاني الراب التي كان هاوِياً لها وأحبها كَحُبه للفَن ولِتَخَصُّصه بشكل عام، لكِنَّ محاولاته لم تَتَكلّلْ بالنجاح أمام ضّعف المَساحات المُتاحة للشباب من دون استغلال أو مساومة بدافع الحصول على الخِبرة. حِينها قرّرَ ومجموعة من الشباب الذين شاركوه هَمّه وحُلمَه في ذات الوقت، تأسيس مَمْلكة صَغيرة بدأت باستوديو تسجيل مُتواضع عَزلوه بأطباق البيض الفارغة وكان مقره غُرفة نَومِه.
بَقي هذا المكان الصّغير حاضناً لأحلام الكَثير من الشباب الشغوف بالإنتاج المَرئي والمسموع خاصة الفني والثقافي مِنه، وكان مَهْربا يلجؤون إليه كُلّما شَعروا بأن الخارج لَيس آمناً بما يكفي ولا يتسع لأحلامهم. أطلقوا في حِينها "راديو باور" الذي لا زال يَبُثُّ بَرامِجِه ومَواده عَبر الموقع الالكتروني، ومارسوا دورهم الحقيقي تجاه المجتمع من خلال العمل التطوعي، شاركوا المُسِنين في الكثير من الفَعاليات والمُبادرات، وكذلك الأطفال والعائلات في المهرجانات والمناسبات العامة، مُستخدمين أدواتِهم البَسيطة مِمّا تَوفَّر لَهم من خلال دراستهم مثل كاميراتهم الخاصة، أو أجهزة الحاسوب التي اقتنوها بغرض إنهاء دراستهم. بَقِي ضِياء هذه الطاقة الشبابية مُشْتَعِلاً حتى خَبا ضُوءه فَجأة عَلى وَقْعِ خَبر فُقدان المؤسس بعد سنتين من إنطلاق الحُلم عام 2014.
رَحل نَبيل إذاً تاركاً خَلفه حُلما مُعلقاً بَين سَماء الأمنيات الامحدودة، وكَسرة ألم الفقدان غير المتوقع، ووجَد الفريق نَفسه أمام خيارين ـ إما الاستمرار متسلحين بحلم نبيل وفكرته الأم، أو الاستسلام لألم الفقدان الذي ما انتهى يوماً ولكنه أخذ أشكالاً أخرى تُشبه نبيل في إصراره وعِناده.
رغم اختيار عَددٍ من أفراد الفَريق - وكان عددهم في حينها ثلاثين شاباً وشابة استكمال - حياتهم بعيداً عن باور لأسباب شَخصية وخاصة، إلا أن الجزء الآخر اختار أن يَسْتكمل الحُلم وأن يَمشي في طَريق تَحقيقهِ لِيَنْعَم برؤيته حَقيقة واقعية تُشبه الخَيالات الجَميلة التي يَتَمنّاها الشباب الفلسطيني في ظِل قِلة الفُرص المُتاحة، وضَعْف المَنَصات القادرة على احتضان طاقاتهم ورغبتهم بِرَسم طَريق وبَصْمة مُختلفة في المجتمع.
تَشابهت البِدايات في طاقة أصحابِها وشَغفهم، الذي دفعهم للمَرة الثانية إلى تأسيس مقر جديد اتخذ من بيت جالا مكاناً له، وتم تجهيز تفاصيله الدقيقة باستخدام أبسط المواد وتصميم أغلب الديكورات والمقتنيات بالاستعانة بإعادة التدوير وخبرات الفريق. الزائر إلى مقر باور اليوم يستشعر بقيمة كل هذه التفاصيل وبانفرادها، لا لفخامتها ولكن لأنها بُنِيَت بِحُب ورغبة شباب كانوا يجهزون بيتاً لأحلامهم لا مقراً لشركة أو مؤسسة.
وانطلقت مجموعة باور من جديد محافظة على الراديو الذي ظَلّ يَبُث برامجه الكترونياً، متيحاً المجال للشباب الراغبين بامتلاك مساحة في الفضاء الصوتي للتعبير عن ذواتهم وصَقل مَعرفتهم وخِبراتهم في التقديم الإذاعي، من خلال جُملة برامج شبابية اجتماعية وترفيهية منوعة، وأنشأوا قسم "غرفة الإبداع" فقدموا من خلاله في البداية جميع الأنشطة التطوعية في خدمة الفئات المحتاجة في المجتمع، وبعض الأنشطة الثقافية والفنية مثل "بْساط الريح" الذي هدف لتعزيز ثقافة القراءة الجماعية وتذوق النصوص الأدبية، و"استوديو 90" الذي أعاد مشاهدة ونقد مسلسلات اجتماعية مثل "مرايا" بغرض كتابة نصوص يتم تحويلها لاحقاً إلى دراما اذاعية، و"نادي السينما" لعرض ومناقشة الأفلام الفلسطينية والعربية. كل هذه الانشطة كانت تنفذ داخل قاعة باور المتواضعة، التي ضمت أيضاً على مدار السنوات الماضية العديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية والتدريبية والفنية، بالإضافة إلى تطوير قسم الإنتاج المرئي والمسموع ليكون مصدراً لدخل الفريق ولو بشكل جزئي.
مضت باور في طريق التطوير الذي حصدت خلالها العديد من الجوائز والمنح المحلية، منها جائزة "مبادرون فلسطين" عام 2016، وجائزة "يلا إبدأ" للمشاريع الريادية مع مؤسسة داليا المجتمعية عام 2019، ومنحة منتدى سيدات الأعمال ضمن مشروع "أبادر" عام 2021.
واستطاعت أن تبني شراكات استراتيجية مع أكثر من 20 مؤسسة وجِهة رسمية وأهلية، ساهمت في تعزيزها جودة الخدمات التي قدمتها باور للشركاء على مدار 8 سنوات، والتي كانت كفيلة ببناء قاعدة مَتينة من الثِقة بالفريق وقدراته.
شكلت جائِحة كورونا وما تَبعها من إغلاقات وعَرقلَة للحياة اليومية تَحدياً كبيراً أمام الفريق الذي كان يعتمد في عمله على التنقل والأنشطة العامة، لكنها منحته دافعاً إضافياً للبحث في البدائل وتطوير آليات العمل. فقد تحول إنتاج الدورة البرامجية في حينها إلى انتاج مواد مصورة خاصة بوسائل التواصل الاجتماعي، نذكر منها برنامج "رُمّان" و "المُلَخّص"، ودفعت الفريق بعد انقضاء الجائحة والعودة تدريجياً للحياة إلى تكثيف العمل على الجانب الثقافي والفني، حيث أطلقت عام 2021 الموسم الأول من مهرجان "عَ الدّرَج" الذي نفذ حتى اليوم ثلاثة مواسم غنية بالفعاليات الفنية والثقافية التي اتخذت من شارع النجمة المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي مكاناً لها، بالإضافة إلى تطوير قسم التدريبات الذي صمم ونفذ العديد من البرامج التدريبية الخاصة بالمجموعة، مثل مشروع "خُرّاف" لإنتاج المدونات الصوتية "البودكاست".
تُقَدِّم باور اليوم خدمات الإنتاج المرئي والمسموع من الأفلام، الحلقات الاذاعية والمصورة، الفيديوهات الترويجية والتوثيقية، بالاضافة للتصوير الفوتوغرافي، وخدمات البث الإذاعي عبر راديو باور والإذاعات الشريكة، والتنسيق الإعلامي وتغطية الفعاليات والمناسبات الثقافية والفنية العامة، وتأجير المعدات والمساحات اللازمة للإنتاج المرئي والمسموع والتصميم الجرافيكي.
بالإضافة للدور الثقافي الذي تمارسه من خلال عروض الأفلام في الساحات العامة، والمغلقة، والمهرجانات مثل "عَ الدّرج" والشراكة في تنفيذ مهرجانات نوعية أخرى مثل مهرجان "المَخرور" "وحَياة بيت لحم" وغيرها.
وتعمل على تَطوير قِسم التدريبات "وَرْشة"، لتوفير فُرَص عَمل وتدريب متميزة في مجال الإنتاج الرقمي، للشباب الخريجين الراغبين في التخصص في أحد هذه المجالات.
تُؤمن باور بأن التحديات قادرة على نَفِي المُستحيل وأن كُل عَثرة هي دَعوة للبحث عن سُبل نَجاح وتطوير جَديدة، وربما لتَدارُك أخطاء قديمة، والأهم أن الإستسلام كَلمة غريبة عن قاموسها، خاصة وأنها تَسعى لِتكون نموذجاً للشباب الحالم الشّغوف الرافض لكل أشكال الإحباط الكبيرة التي يعايشها الشباب الفلسطيني يومياً.
رندة صليبي
صحفية ومقدمة برامج إذاعية ومحررة محتوى صوتي من بيت لحم. تعمل حالياً مع مجموعة باور في إدارة البرامج الاذاعية في قسم الراديو، بالإضافة إلى عملها في التقديم الاذاعي والتدريب في مجال الانتاج الصوتي والتحرير الصحفي