الشباب العرب، بين الفوريكس والروليكس
بعد نشر تقرير مراقب الدولة في أيار 2023 والذي جاء فيه أن 30% من الشباب العرب معطلون (חסרי מעש)، كان لا بد من التوقف عند هذه المعطيات الخطيرة وتحليلها عن قرب وشرح تداعياتها على حياتنا اليومية في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل.
يمكن فهم معطيات التقرير المذكور من خلال ما حدث في مجتمعنا منذ سنة 2000 ولغاية اليوم، وذلك بعد تغلغل ثقافة الاستهلاك والقفزة النوعية في مستوى المعيشة.
ففي الوقت الذي اقتصر فيه السفر إلى الخارج وارتداء الماركات العالمية في الماضي على فئة صغيرة من مجتمعنا، أصبحنا نرى اليوم أننا نغرق في تسونامي البذخ وثقافة الثراء المزيف والتي هي الوجه القبيح لثقافة الفقر.
الشباب الفلسطيني في داخل إسرائيل يعيش حالة من فقدان البوصلة والقدوة الإيجابية حيث انهارت خلال السنوات العشرين الأخيرة، تماماً، منظومة العائلةَ - العشيرة - الطائفة بالمعنى التقليدي حيث كانت لها في الماضي مكانة مرموقة في ضبط سلوك الفرد من خلال معاقبة كل من يخرج عن الإجماع ويسلك طريق الانحراف. وقد استطاعت تلك المنظومات خلق حالة ردع ورهبة عند الأفراد، إذ كانت العقوبات الاجتماعية مجدية، مثل المقاطعة الاجتماعية أو رفع الغطاء العشائري عن المنحرف وغير المنضبط.
أما اليوم، فنحن أمام ظاهرة أحياء الفقر أو العشوائيات (SLUMS) وانهيار كامل وتغييب تام للمنظومة التقليدية. لذلك، نرى أنه أصبح الفرد يمتلك قوة وسطوة تفوق قوة وسطوة المجموعة ويستطيع، بالتالي، فرض ارادته (زعرنته). ومن هنا بدأنا نشاهد اعتداءات على رجال إصلاح وجاهات صلح وعدم احترام كلمة الشيخ او زعيم الحمولة وأضحى القول الفصل للمجموعات الخارجة عن القانون والمسلحة. لذلك، تستطيع هذه الفئات اليوم أن تكفل الصلح أو "إرجاع الحق إلى أصحابه" من منطلق القوة والعربدة وعدد الطخيخة الذين يحتكمون بإمرتهم.
في هذه البيئة الموصوفة أعلاه ينشأ الشباب الفلسطيني في داخل إسرائيل وقسم منهم لا توجد لديه طموحات أكاديمية أو مهنية وأقصى ما يحلمون به هو الربح السريع والاندماج في عالم الثراء الافتراضي مثل السيارات الفارهة، ساعات الروليكس، الملابس الثمينة، السفر إلى خارج البلاد الخ... ثم عرض هذه الأمور من خلال شبكات التواصل الاجتماعي كأنها إنجازات حتى تفشى هذا الوباء بين أعداد كبيرة من الشباب.
لذلك، أصبحت منظمات الاجرام المشغل الأول والمضمون لهذه الفئة، من خلال عرض وظائف مغرية تلائم "قدرات" كل فرد. ولا بد من التأكيد على أنه ثمة في عالم الاجرام مكان لكل إنسان حسب مهاراته. مثلاً، الشاب الذي لديه شغف بالتسويق وقدرة على الإقناع يمكن أن يعمل ويتفوق في شركات الفوريكس ومن يتحلى بدماغ اقتصادي يستطيع أن يندمج في سوق الصرافة وتبديل العملة والقروض ومن هنا تتعدد التخصصات والمجالات حتى نصل إلى جباية الخاوة وإحراق الممتلكات وصولا إلى القتَلَة المأجورين.
تسعيرة الجرائم، حسب ما انكشفنا عليه من خلال لوائح اتهام قدمت ضد شباب عرب أو من خلال مقابلات أجريتها مع شباب أدينوا بجرائم خطيرة، هي كالتالي:
احراق سيارة: 3 - 5 آلاف شيكل
إطلاق نار على منزل: 8 - 10 آلاف شيكل
إطلاق نار على القسم السفلي من الجسم: 30 - 50 ألف شيكل
قتل: 200 - 500 ألف شيكل
قتل رئيس منظمة إجرامية: 3 - 5 مليون شيكل
تجارة السلاح: 20 - 70 ألف شيكل، شهرياً
فوريكس: 20 مليون شيكل شهرياً
نحن في حاجة اليوم إلى توظيف الخطة التي طُبّقت في المجتمع اليهودي قبل 20 عاماً وقضت على عصابات الإجرام في مركز البلاد/ تل أبيب – نتانيا (فجلبت الجريمة، بالتالي، إلى مجتمعنا)، وذلك من خلال اعتماد وسائل تكنولوجية متطورة وقيام الشرطة وجهاز القضاء بدور حقيقي في الكشف والمعاقبة بهدف الردع، وهذا ما يجب أن تسعى إليه سلطاتنا المحلية وأعضاء الكنيست.
أكاد اجزم بأن الشرطة، وكذلك المستوى السياسي، لم يتخذا بعد قراراً بمواجهة عصابات الإجرام في المجتمع العربي، وما يحدث على هامش استفحال الجريمة قد يكون مفيداً للمؤسسة الإسرائيلية. مثال على ذلك نراه في السنوات الأخيرة، من خلال ابتعاد بعض الشباب العرب من شرائح اجتماعية مختلفة عن عالم الجريمة لكنها تنخرط، في المقابل، في أجهزة الجيش والشرطة والخدمة المدنية، ما تعتبره الدولة "مؤشرًا إيجابيًا". وكذلك الأمر بالنسبة لمشروع "مدينة بلا عنف" الذي اجتاح المجتمع العربي وهو مشروع تابع لوزارة الأمن القومي (المسؤول المباشر عنه اليوم هو الوزير إيتمار بن غفير) وهدفه المعلن محاربة العنف والجريمة، لكننا نجد أن معيار نجاح المشروع هو عدد الشبان المنتسبين إلى الخدمة المدنية، وبالتالي فإن تعامل قياداتنا المحلية وأعضاء الكنيست يجب أن يكون مهنيًا ومدركًا للمخاطر المحدقة وأن تكون هناك لجنة من داخل المجتمع العربي لمراقبة عمل مؤسسات الدولة بكل ما يخص أبناء الشبيبة. على قيادات المجتمع العربي التعاطي مع هذا الأمر بمهنية ومثابرة لأن التعامل مع هذا الملف الخطير اليوم لا يتعدى ردود الأفعال فقط ويقتصر على المظاهرات والاحتجاجات العابرة التي لا ترقى إلى الحد الأدنى من متطلبات ومقومات مواجهة هذه الظاهرة التي تهدد أسس هذا المجتمع وركائزه.
من هنا، أناشد ضمير كل إنسان لمواجهة ظاهرة العنف والجريمة للحد من تدهور شبابنا إلى هذا النفق المظلم، لأن القضاء على الجريمة في مجتمعنا لن يتم دون التكافل الاجتماعي ومساهمة الجميع، أفراداً ومؤسسات وقيادات، ومواصلة الضغط على الحكومة. وأنصح كل شاب بالبحث عن تحقيق ذاته بعيداً عن عالم الجريمة ورفض الانحدار إلى هذا الدرك تحت أي ظرف من الظروف، أو طلب المساعدة من هذه الجهات المشبوهة. وعندما نلتزم جميعاً بهذه الأمور عندها سيبقى مجتمعنا بعيداً عن أهم مسببات العنف والجريمة وحامياً لأبنائه ومحصِّناً لمستقبله.