كيف تغير الحرب مفهوم العمل الإغاثي؟

 تدخل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها العاشر، لا يمكن للأرقام ولا الأشهر ولا كل المحاولات أن تصف الفاجعة بدقة، لكنها قد تعطينا مؤشر على كوارث واضحة لا يمكن السيطرة عليها، واقع من الاحتياجات لا ينتهي، كما تشير لواقع صعوبة العمل الإغاثي في ظروف قاسية تطال الجميع حتى القائمين على هذا النوع من الأعمال. النزوح لا يميز بين محتاج وقادر على المساعدة، الصواريخ الإسرائيلية لا تميز ضحاياها. نجد أن هناك استهدافا واضحا للعمل الإغاثي سواء بتدمير مؤسساته وقصفها وجعلها غير صالحة للعمل، أو قتل العاملين في مجال العمل الإغاثي سواء من برز منهم بشكل واضح من خلال شبكات التواصل الاجتماعي أو من لم يعرف عنه.

شكلت مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الأهلي في غزة على مدار سنوات عديدة، رافعة أساسية للمجتمع الفلسطيني، حيث أسهمت بشكل واضح في تخفيف وطأة الحصار، سواء من خلال تقديم برامج ومشاريع متنوعة تستهدف فئات مختلفة في المجتمع، أو من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي لمن يحتاج ضمن إمكانيات هذه القطاعات المختلفة، وضمن واقع عمل يقع تحت مساحات تمويل محدودة، تعرقلها في كثير من الأحيان شروط تمويل مجحفة بحق المؤسسات التي تعمل في واقع غزة الخاضع للحصار بكل تبعياته المحلية والدولية.

خلال الحرب المستمرة تحولت المؤسسات من عملها المعتاد ضمن برامج وأنشطة ما قبل الحرب، إلى تقديم الخدمات الممكنة حسب قدراتها وإمكانياتها، كثير من المؤسسات أتاحت مقراتها التي لم تقصف بعد للنازحين، كما وفرت كل ما يلزم من مخزون من الممكن أن يشكل أي مساعدة للمواطنين خلال نزوحهم من مكان لآخر. هذا التدخل الطارئ يجعلنا نفهم ضمنا فداحة الحرب، لكنه في نفس الوقت يشير إلى مساعدة محدودة ومرتبطة بزمن نفاذ هذه الإمكانيات، أو حتى تدخل إسرائيل بقصف مبان قد تأوي نازحين لكنها في الأصل مقرات لمؤسسات محلية سخرت كلّ مجهودها لتقديم العون.

تقدم مؤسسة "فلسطينيات" خلال الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، خدمات متنوعة ضمن نطاق عملها وقدراتها، تعرف فلسطينيات عن نفسها بأنها "مؤسسة أهلية إعلامية، تسعى لدعم المشاركة الحقيقية والفاعلة للنساء والشباب الفلسطيني"، أحد أهم أوجه الدعم التي تقدمها مؤسسة فلسطينيات، تأتي على شكل مبادرة انطلقت منذ سنوات من خلال تأسيس نادي الإعلاميات الفلسطينيات في الضفة الغربية وغزة، ليكون مساحة للصحفيات الفلسطينيات تحديدا المستقلات منهن، هذا النادي استطاع أن يشكل صمام أمان بشكل أو بآخر خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

تقول منى خضر مديرة مكتب فلسطينيات في غزة "منذ الأسبوع الثاني للحرب عملنا على تجهيز استمارة مفصلة لتحديد احتياجات الصحفيين والصحفيات، تحديدا مع شراسة الحرب الظاهرة منذ اليوم الأول، ومع بدء النزوح. الكثير من الصحفيين لم يستطيعوا أن يأخذوا معهم أي شيء من أدواتهم وملابسهم واحتياجاتهم الضرورية، حتى المؤسسات الصحفية لم تسلم من التدمير، وبالتالي كثير من الأدوات والحاجات الخاصة للصحفيين كانت في مكاتبهم التي قصفت. الاحتياجات كانت كبيرة جدا ومختلفة في نفس الوقت، البعض كان بحاجة أدوات وأجهزة وهذا كان يفوق قدرتنا كمؤسسة محلية، البعض كان يحتاج مبالغ مالية بسيطة، ملابس شتوية أيضا، تحديدا أن الحرب بدأت في الشتاء، والمواطنين نزحوا دون أن يستطيعوا أن يأخذوا معهم الكثير من احتياجاتهم الأساسية لفصل الشتاء، وبالتالي حاولنا قدر الإمكان أن نحدّث قائمة الاحتياجات أولا بأول تبعا لتغير الظروف".

عملت مؤسسة فلسطينيات خلال الحرب المستمرة على غزة على توفير احتياجات أساسية، مثل الفراش، والوسادات والبطانيات اللازمة للنوم والراحة، كما جهزوا خيمة كمساحة خاصة للصحفيات حتى يحظين ببعض الخصوصية، تحديدا أن غالبيتهن كن يعملن بجانب المستشفيات، حيث تم تجهيز هذه الخيمة بالإنترنت والكهرباء لتسهيل عملهن، استطاعت فلسطينيات أن تجهز خيمات في خان يونس وفي محيط المستشفى الكويتي، كما قدموا مبالغ رمزية للصحفيين. 

تضيف خضر "من المؤكد أننا لم نستطع تغطية احتياجات الجميع، لكننا حاولنا حسب الإمكانيات المتاحة أن نغطي غالبية الصحفيين حاولنا توفير الانترنت، حاولنا أيضا تقديم بعض الدعم للصحفيين/ات في الشمال رغم استحالة الأمر في بعض الأحيان، أيضا قدمنا ما سميناه حقيبة الكرامة للصحفيين والصحفيات التي كانت تحتوي على الفوط الصحية للنساء، مزيل العرق، الشامبوهات، الصابون، معجون الحلاقة، ماكينات الحلاقة، تحديدا أنه كان من الصعب على الصحفيين أن يتركوا عملهم في التغطية المستمرة لشراء احتياجاتهم".

خلال العقود الماضية عملت الكثير من المؤسسات والمنظمات الدولية التي تعمل على مستوى عالمي، في صياغة مدونات سلوك، ووضع قوانين، وأسس ومبادئ تحدد طبيعة العمل الإنساني والإغاثي، كل هذا المجهود لم يحم أي فلسطيني يعمل في هذا المجال خلال الحرب، بل على العكس تماما، وكأن إسرائيل كانت تريد القول بشكل واضح من خلال صواريخها واستهدافاتها أن لا شيء، ولا وظيفة ولا أي عمل مهما كانت طبيعته والحماية الدولية التي من الممكن أن تحيط به يمكنها الوقوف أمام الصواريخ الإسرائيلية.

خلال عملية البحث على شبكات التواصل الاجتماعي وحديثي مع العديد من الأصدقاء الذين ما زالوا يحاولون التمسك بالحياة في غزة، اكتشفت أن هناك العشرات من العاملين في المجال الإنساني والإغاثي قد قتلتهم إسرائيل خلال عملهم أو نزوحهم، والحقيقة هذا الأمر كان منذ الأيام الأولى، حيث قتلت إسرائيل 4 من مسعفي الهلال الأحمر، ولم يستطع أحد أن يفعل أمام هذا القتل المستمر شيئا. قدم القائمون على العمل الإغاثي في غزة فوق طاقتهم بكثير، بنوا الخيام، وفروا المياه، نظموا الخيام التعليمية للأطفال، وزعوا الطرود الغذائية، نظموا أياما للتفريغ النفسي للأطفال، وما زالوا يسعون للعمل في ظروف لا يمكن لأحد أن يتخيلها.

يقول معاذ وهو يعمل مع مؤسسة إغاثية تقوم بتوزيع الطعام والماء في شمال غزة "في كل مرة بكون عنا مهمة توزيع طعام أو مي في الشمال، بحس كأنها مهمة موت، الوضع في الشمال صعب، والحصول على أي شيء لتقديمه يعتبر معجزة أصلا، والناس غلبانة في بعض المناطق بتحسي كأنك ماشية في مدينة أشباح، لكن ما بنقدر نوقف، هاد الشغل صار مفروض علينا، إذا ما ساعدنا الناس رح تموت، واحنا بكل الأحوال كلنا تحت القصف، بنحاول نعمل اللي بنقدر عليه، يمكن نقدر نعطي عمر لحدا".

خطورة العمل الإغاثي في ظل الحرب التي أشار لها معاذ، هو أيضا ما أكدته منى خضر، حيث قالت "هذا العمل واجه الكثير من الصعوبات، أهمها واقع الحرب الشرس نفسه، كان من الصعب أصلا على طاقم عملنا أن يخرج ليبحث عن هذه الاحتياجات ويستطيع شراءها بأسعار غير ثابتة، رحلة شراء الاحتياجات كانت محفوفة بالمخاطر منذ اللحظة الأولى، واقع انقطاع الاتصالات والانترنت كان يؤثر على عملنا بشكل كبير أيضا، حاولنا اجتياز هذه الصعوبات قدر الإمكان والقيام بالعمل وتقديم الدعم الواقع علينا، أيضا عملية توزيع هذه الاحتياجات على الصحفيين والصحفيات كانت صعبة جدا، ناهيك عن شح البضائع نفسها وعدم توفرها بشكل يسمح بشراء الاحتياج اللازم، تنقلنا بين المحافظات لمحاولة توفير أبسط الاحتياجات خلال الحرب المستمرة، رغم كل هذه الصعوبات حاولنا قدر الإمكان أن نسهم في تخفيف أعباء الحرب على الصحفيات والصحفيين ضمن إمكانياتنا المتاحة". 

أعادت الحرب تشكيل وتعريف العمل الإغاثي، لم يعد احتياجا بين الحين والآخر، بل أصبح واقعا يوميا مفروضا على كل فلسطيني، لكن لا يمكن تجاوز الوجه القبيح لهذا العمل الإغاثي، الذي حدثني عنه معاذ، حيث أشار “المشكلة إنه الموضوع بطل توفير مساعدات وبس، فكرة إنه بعض الممولين بدهم تصوير إنه العائلات استلمت، بتصير رفاهية في ظل الحرب إنك تقدر تصور الناس بدون ما تجرحهم، كمان المجهود الي بنبذله خلال سحب فلوس في ظل العمولات المرعبة على أي فلوس بتسحبها، وما في شي أصلا، كل يوم بتحسي إنه كل شيء بختفي تدريجيا".

حقيقة ما ذكره معاذ، يحرم الكثير من العائلات من الحصول على المساعدة، السرقة التي تحدث عند عملية سحب الأموال من قبل العاملين في مجال العمل الإنساني ربما تحرم عائلة ما من الحصول على المساعدة، الحملات الإلكترونية التي يستطيع من يستطيع الوصول إليها من خلال إنشاء رابط تبرع، قد يصل لمئات الآلاف من الدولارات بسبب أن صاحبه مشهور أو لديه ملايين المتابعين، كل هذا الواقع المعقد، يخل في التوازن، يحرم كثر من الحصول على الحد الأدنى للاستمرار في ظل الحرب، الحرب الإسرائيلية تقتل الفلسطينيين بشتى الطرق، بدءا من الصواريخ الإسرائيلية، لكن ليس توقفا عندها.


أنتجت هذه المادة بدعم من “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” التي تشرف عليها فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.

ريهام المقادمة

صحفية وباحثة فلسطينية

رأيك يهمنا