ليسوا أبطالًا خارقين، هم أبطال الميدان
"في حدا هان؟ "هات الشيالة"، "في حدا كان معك؟"، هذه الجمل الّتي باتت روتينًا نسمعه على منصات التواصل الاجتماعي هي مأساة تعيشها طواقم الإنقاذ يوميًا ومنذ أكثر من تسعة أشهر.
منذ أكثر من تسعة شهور رائحة الموت لا تخبو في غزة ومعها لا تنقطع محاولات الدفاع المدني في انتشال الشهداء والمصابين من تحت الأنقاض رُغم عدم توفر الإمكانات اللازمة للقيام بعمليات الإنقاذ، نتيجةً قلة المعدات ونقص الوقود وكمية الركام الضخمة، حيث أنّ 70% من مجمل المعدات والآليات قد تعطّلت جراء العدوان وفقًا لمدير المحافظات في الدفاع المدني سمير الخطيب.
قلبٌ كالحجر
"عائلتي تقول إنّ قلبي كالحجر" يتحدّث سعيد عوض (27) مُسعف عن تأثير هذه المهنة والحرب عليه، ويردف :"أعمل على مدار الساعة في وحدة الإسعاف والطوارئ، إنّ تأثير عملي على مشاعري محدود ويستمر عدة أيام كحد أقصى، قد يحدث ذلك إن قمت بإسعاف صديقٍ لي واستشهد. في هذه المهنة عليّ وضع مشاعري جانبًا وأن أتحلّى بالقوة، يجب أن لا يشعر المصاب بأنّني متأثّر. الحالات الّتي تصلنا صعبة، ما يصلكم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يتعدى الـ 1% لهذا يهمني أيضًا أن أوثق ما يحدث فورَ وصولي إلى مكان الاستهداف. قبل يومين تعاملتُ مع إصابة طفل بشظية دخلت في بطنه وأدّت إلى خروج أحشائه، لقد كان الطفل بكامل وعيه لكنه غير مدرك لما حلّ به، فكان كل همّي خلال إسعافه أن لا ينظر إلى الأسفل كي لا يُصاب ب "تروما"، حتى الآن لا أعلم إن استشهد أم لا، لكنني أعلم أننا تعاملنا مع حالته بالشكل الصحيح".
سعيد عوض
وعن طبيعة العمل الميداني لفرق الإنقاذ، يقول: "طريقة تلّقينا المعلومات حول استهداف معيّن تتم إما عبر الدفاع المدني الّذي يتلقى الاتصالات من المواطنين أو من الصحافة المتواجدة معنا في المستشفى أو عبر مجموعة خاصة بالصحفيين والدفاع المدني. تحصل معظم الاستهدافات بعد منتصف الليل حيث لا تكون جميع طواقم الإسعاف متاحة. حينما نصل مكان الاستهداف نجد أنّ الجيران قد بدأوا بانتشال المصابين، ثمّ يقوم الدفاع المدني بتقييم المكان قبل دخولنا كمُسعفين، فمن الممكن أن تكون هناك أسطوانة غاز أو صاروخ لم ينفجر، بعد تأكد الدفاع المدني من سلامة المكان ندخل نحن المسعفين، نقوم بانتشال الإصابات الحرجة أولًا ثمّ باقي الإصابات وفي الأخير نُخرج الشهداء".
سعيد عوض
وعن أصعب موقف مر به كمُسعف في هذه الحرب، يروي: "إنّ أصعب موقف مررتُ به عندما تم استهداف المسجد الّذي يتردد إليه أقربائي في دير البلح، في تلك الليلة داومت في المشفى ولم تصل أي حالة تخص هذا الاستهداف، فاضطرت للذهاب إلى مكان الاستهداف والانتظار حتى صبيحة اليوم التالي لأجد خالي شهيدًا".
"أشعر بالعصبية الزائدة بسبب الضغوطات وتوقّف حياتنا الطبيعية وطول هذه الحرب، إنّ ما يجعلني صامدًا في هذا العمل التطوعي هو إيماني أنني وسيلة في إنقاذ روح، عملنا إنساني ويجب أن نستمر به" بهذه العزيمة أردتُ أن أختم حديث سعيد حول تطوعه كمُسعف ميداني في هذه الحرب، فهو ليس حالة خاصة.
الدفاع المدني في مواجهة التحديات والعراقيل
المجازر متتالية وحدة القصف في تزايد وحجم عمليات الإنقاذ يفوق قدرات فرق الإنقاذ كافةً، حيث صرّحت مديرية الدفاع المدني أنّ مهامهم الإنقاذية تُعادل جهود 24 عامًا من العمل في الوضع "العادي" قبل هذه الحرب". كذلك هناك حوالي 6 مركبات إسعاف لخدمة أكثر من مليوني مواطن في القطاع قد تتوقف عن العمل بسبب نقص الوقود.
يقول الدكتور محمد الصغير مدير إدارة الإمداد والتجهيز للدفاع المدني: "نحن بحاجة إلى توفير 10 سيارات إسعاف و18 قافلة إنقاذ و23 سيارة إطفاء بالإضافة إلى توفير منظومة كاملة للتواصل اللاسلكي. ذلك ولأنّ الصعوبات الّتي تواجه طواقم الدفاع المدني في ظل العدوان الشرس وحرب الإبادة تتمثّل في ضعف شبكات التواصل واستهداف أبراج شبكات الاتصال اللاسلكي الخاصة بالدفاع المدني، كذلك هناك استهداف مباشر لطواقمنا في مراكزهم أو أثناء تنفيذ عمليات الإنقاذ وقد بلغ عدد الشهداء ممن ارتقوا في الدفاع المدني 79 شهيدا بالإضافة إلى 260 مصابا 12 أسيرا".
العالم يكيل بمكيالين
وعن تقاعس الأمم المتحدة يقول: "نتيجةً لإغلاق المعبر نُعاني من عدم توفر الوقود اللازم والأمم المتحدة ترفض تزويدنا به بحجة أنّنا نتبع لوزارة الداخلية، الأمر الّذي يُصعّب علينا الخروج في مهام الإنقاذ".
وفي رسالة مؤلمة وجّهها الصغير إلى المجتمع الدولي الّذي يدّعي الإنسانية على حد قوله: "كفاكم منعًا للتدخلات الإنسانية وتلاعبًا في القانون الدولي الإنساني، ما تفعلونه يساهم في زيادة الخسائر وقتل الأرواح البشرية على مرأى ومسمع الجميع، يكفيكم ازدواجية في تطبيق القوانين الدولية، فصراع روسيا وأوكرانيا والحرب على غزة أثبتوا أنّ العالم يكيل بمكيالين".
"أصبحتُ أنا الآخر ضحية"
يتحدّث بشّار مهنّا من جمعية الهلال الأحمر عن التحدّيات الّتي يواجهها بشكل شخصي في حرب الإبادة، قائلًا: "الجميع يرى أنّ هذه الحرب هي الأصعب على الشعب الفلسطيني، كذلك هي الأصعب على عائلتي، لقد نزحنا سبع مرات، أصبحتُ أنا الآخر ضحية لما يحدث. أمّا عن الصعوبات الّتي تواجه طواقم الدفاع المدني خلال العمل الميداني فهي طبيعة بيئة العمل، كحجم الدمار للمناطق المستهدفة غير المسبوق بالإضافة إلى عدم وجود أدوات و معدات ثقيلة تتيح انتشال الشهداء والإصابات من تحت الركام. نحنُ نتحدّث عن أكثر من عشرة آلاف مفقود تحت الأنقاض، أضيفي على ذلك الإصابات الخطيرة التي تعاملنا معها مثل الحروق من الدرجة الثالثة، والأشلاء، وحالات البتر الّتي زادت عن 5000 حالة".
يُكمل: "إنّ أصعب موقف مررت به هو إخلاء مستشفى القدس، حينها شغلت منصب مدير المستشفى، وقد طالبني الجيش بإخلائه أكثر من مرة، نتحدّث عن ما يزيد عن 14 ألف نازح داخل المستشفى غير المصابين والكوادر الطبية. لقد تمت محاصرة المستشفى ومُنع إدخال الوقود والطعام والأدوية والمستلزمات الطبية لأكثر من 38 يوما، كما تم استهداف المستشفى ممّا أدّى إلى إصابات عديدة وارتقاء الشهداء، لقد كان البقاء على قيد الحياة أكبر تحدّي".
الحال ينقلب
"يا الله، مواطن يقوم بحمل جثة شهيد من الدفاع المدني، لقد تغيّرت الأحوال، صورة ستبقى عالقة في التاريخ"، هكذا علّق المراسل أنس الشريف تحت صورة انتشرت لمواطن يحمل شهيدًا من الدفاع المدني بعد مجزرة المواصي الّتي راح ضحيتها أكثر من 90 شهيدا وأصيب فيها أكثر من 300 شخص، وتم فيها استهداف الدفاع المدني بشكل مباشر بحسب المقاطع الّتي وثّقها المتواجدون في المنطقة.
يقول نوح الشغنوبي (23) مصور فوتوغرافي وموظّف في الدفاع المدني عن الصورة ذاتها: "تسعة شهور ونحنُ ننقذ المواطنين من تحت الأنقاض ونرفع الشهداء، تسعة شهور ونحن نعاني من قلة الإمكانيات وعدم توفر معدات من أجل انتشال الشهداء.. ونعمل بأيدينا العارية من أجل إنقاذ ما تبقّى من أحياء، واليوم الناس تنتشلنا وترفعنا وتُسعفنا.. نحن لسنا بخير".
نوح الشغنوبي
"حضرت حرب 2021 في الدفاع المدني مكنتش هيك يا عمّي!"، بهذه الكلمات يصف نوح عمله في الدفاع المدني خلال هذا العدوان، ويضيف: "هذه ليست حرب، بل إبادة جماعية، في حروب سابقة كانوا كحد أقصى يستهدفون منزل عائلة كاملة ويرتكبون مجزرة أو اثنتين. أما هذه الحرب فقد وصل فيها عدد المجازر إلى ما يزيد عن 5 آلاف، وهناك عائلات كاملة مُسحت من السجل المدني. نحن نستهدف بشكل مباشر، حتّى لو كان هناك تنسيق مع الصليب الأحمر، هذه الحرب أثبتت لي أنّه لا وجود لحقوق الإنسان".
ليسوا أبطالًا خارقين
بينما يُغلّف الظلام كلّ شيء تهبّ طواقم الدفاع المدني\طواقم الإنقاذ لنجدة من هم تحت الأنقاض، وفي بعض الأحيان يسيرون بأرجلهم أو على عربة حمار فلا وقود ولا سيارات إسعاف تكفي، بالكشافات الضوئية يبحثون عن المصابين وبالمطرقة يحاولون كسر الركام، هم ليسوا أبطالًا خارقين ولا أساطير، لكنّهم أصحاب رسالة إنسانية تُعزز من صمودهم ومواجهتهم للعراقيل كافةً في سبيل إنقاذ الأرواح.
تحدّث الدكتور محمد الصغير مدير إدارة الإمداد والتجهيز للدفاع المدني عن عدم وجود دعم نفسي مستمر للطواقم العاملة في الميدان، أتساءل هل يتمكّن أفراد الدفاع المدني من تجرع مرارة الفقد والبُعد أم أنّ محاولتهم إنقاذ ما يمكن إنقاذه تشغلهم عن ذلك؟ ومن ذا الّذي سينقذهم من هول ما رأوا حينما تضع الحرب أوزارها؟
استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].