مقتطفاتٌ في العملِ الإنساني

مقدمة

تتطرق هذه المقالة لبعضٍ من الروايات والحكايات على لسانِ بعضِ العاملين في الحقل الإغاثي والإنساني، ولأسبابٍ عدةٍ تتعلق برغبة الأشخاص الذين تحدثت معهم أولاً، ولأسبابٍ تتعلق بإثارة الغموض في المقال ثانياً، لن أنسب أياً من الروايات لأصحابها، فاعذروني يا قراء المنصة، لكن اسمحوا لخيالكم أن يحلّق عالياً ليصل هذه المرّة مناطق يصعب العمل فيها، لا ليصل السماء!

 في حالِ تساءلَ أحدكم عن معنى "العمل الإغاثي والإنساني"، فلا تنتظروا مني إجابةً إبداعيةً، فقد تجدون في منصات البحث كل التعريفات العلمية والمهنية، ولا أعتقد أن أياً من هذه التعريفات استخدم فيها الشارحُ جمالياتِ لغةِ الضاد. ولكن وعلى أيةِ حال، فإن المصطلح برأيي لا يحتاج تفسيراً لغوياً، فالعمل الإغاثي، بديهياً يشيرُ إلى العمل على إغاثة من حلَّت عليهم لعنة الحروب والنكبات والنكسات، ومن سئِمَت من نفاقهم الطبيعة فصبّت جامَ غضبها عليهم. وأما العمل الإنساني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل الإغاثي، فهو يفترضُ أننا نُمارس إنسانيتنا من خلال مساعدة تلك الشرائح المتضررة المذكورة أعلاه!

حسناً، إذاً أخذنا هذا التعريف المجرد من أي مرجعٍ علمي، فهذا يعني أن جدي قديماً، وعندما كانت تسمح له الفرصة بتقديم المساعداتِ العينيةِ والمادية لجاره، أو كان يستقبل المساعدات عينها من ابن عمه، كان يُمارِسُ ويُمارَس عليه ما يطلق عليه اصطلاحاً اليوم: العمل الإغاثي والإنساني.

ولأكون أكثر فلسفةً، وأنضم لكوكبة المحللين الكُثر، فإن العديد من الاسئلةِ تتراوح لذهني عند النظر لسيرورة العمل الإغاثي الإنساني اليوم…. من يقدمه؟ لمن يتم تقديمه؟ ما هو الثمن؟ لماذا يتم تقديمه؟ ما هو الذي يتم تقديمه؟ وما هي الأُسس التي يُقدم بناء عليها إيٍ من المساعدات الإغاثية والإنسانية.

على سبيل المثال، لا الحصر، لماذا تُقدّمُ دولةٌ عربيةٌ كانت أم غربية، مساعداتٍ لأي طرفٍ ثالث؟ أليس من الأجدى إنفاق تلك الأموال على شعب هذه الدولة؟ ولو أخذنا فلسطين والأردن مثالاً، فإن العلاقة السياسيةَ على الأقل فيها كثيرٌ من الود، أو دعوني أسميها المصلحة المشتركة. لكن، إن الأردن يعاني ما يعانيه من فقرٍ وبطالةٍ وجوعٍ وتضخمٍ في الأسعار، ونقصٍ في المياه، والأنفسِ والثمرات! إذاً لماذا تقدم الأردن، وهي جارتنا العزيزة المساعدات لنا، ولا تآثر بتقديمه للأردنيين؟ وإذا نظرنا إلى أي دولة في أوروبا، لا يوجد فيها حجم المشاكل الموجودة في الأردن، نسأل أيضاً، لماذا تقدم هذه الدولة الشقراء لنا المساعدات؟ ما هو الثمن المدفوع؟ وما هي التنازلات المقدمة؟

الروايات

أ، 35 عاماً، ذكر، مناطق ج، الضفة الغربية

أعمل في هذا المجال منذ عشر سنوات. كنتُ أعتقد أنني في حمايةٍ بحكم عملي، من الاحتلال وجيشه، وأن هذه الشعارات الموجودة على سيارة منظمتي، تعطيني نوعاً من الحرية. في أحد التجمعات البدوية، ذهبت لكتابة تقرير عن خطر هدم التجمع، وتهجير من يسكن فيه. عندما وصلت، قال لي البدوي: "إذا أجا الجيش، قلهم جاي تشتري من عندي جبنة بلدية"! ضحكت وقلت له، لا تقلق، لن يفعلوا شيئاً معي، فوجودي هنا مشروعٌ بكل القوانين.

مرت دقائق، وإذا بمجموعةٍ من الجنود يسيرون نحوي، تتبعهم سيارة تابعة لسلطة حماية البيئة الاسرائيلية. نظر أحدهم إلي، وبلهجته العربية المتثاقلة يقول: "شو بتعمل هون"، أجيب دون تردد: "أشتري الجبنة". قال آخر، افتح السيارة للتفتيش.... السيارة مليئة بالخرائط والتقارير باللغة العربية والإنجليزية... أخذ أحدهم خريطةً وقال: بتعرف انه كيلو الجبنة أغلى من هالخريطة! لم أتفوه بكلمة. ثم تابع وقال: "معك خمس دقائق لمغادرة المكان، هاي منطقة عسكرية مغلقة، واحكي للي بعتك، المرة الجاي لاقولكم كذبة ثانية"!

غادرت المكان وأنا أقول في نفسي: "أي قانونٍ دوليٍ، وأي مساعداتٍ إنسانية، وأنا قد تركت البدوي وحده يواجه الجيش، وهربت بنفسي، وسيارتي الفارهة، عائداً إلى مكتبي"!!

س، 26 عاماً، أنثى: في مخيمِ لاجئين سوريين في أحد البلدان

طوال ست سنوات، كنت أعمل بتفانٍ في تقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية للاجئين السوريين في هذا المخيم. ومع كل لحظة أقضيها هناك، كانت تراودني أسئلة لا تهدأ في عقلي. ليس لغرابة العمل ذاته، بل لحيرة تملكتني حول حياة هؤلاء الناس قبل أن تجبرهم الحرب على اللجوء. كيف كانت تعيش تلك المرأة في ريف حلب، أو في شوارع دمشق الصاخبة؟ ماذا خسرت من حياة وكرامة؟ هل كانت تنتمي للطبقة البرجوازية الراقية؟

نحن نوزع الطعام، النقود، الاحتياجات الأخرى، ونقدم بعض التدريبات للشباب. نلبي احتياجاتهم الأساسية، لكننا لم ندرك أن حاجتهم الحقيقية كانت في سماع صوت يقول لهم بوضوح: "لم يكن هذا ما أردتموه. لم ترغبوا في العيش بمخيم خارج وطنكم." من يملك القدرة على حل مشكلتهم من جذورها؟ في أعماقي، كنت أقول لنفسي: إذا حُلت مشكلتهم، لن أجد عملاً مرة أخرى. هل يعني ذلك أنني فقدت إنسانيتي؟ في هذا الصراع الداخلي، أدركت أن الألم الأكبر هو في عدم قدرتنا على إعادة ما فقدوه حقًا، وأن أعمق مشاعر الغربة هي التي تعيش في قلوبهم، وليست في المخيمات التي يسكنونها.

بعد انتهاء العمل من هناك، تسربت بعض التقارير حول استغلال الفتيات لإكراههن على الزواج من رجالٍ يكبرونهن عشرات السنوات، أو من جنسياتٍ عربيةٍ مختلفة، مقابل الحصول على تصريح عمل لذويهن أو اخوانهن!

نعم هذه هي الحالة، وهذا ما لم يستطع العمل الإغاثي والإنساني إيقافه..... تركت عملي، وذهبت لأخدم الناس في أحد المطاعم في العاصمة! فهذا العمل فيه القليل من التفكير، والقليل من تأنيب الضمير!

ي.ن: 37 عاماً، ذكر، القدس

إحدى المؤسسات العاملة بالإغاثة في القدس، عيّنت مديراً تنفيذياً من فرنسا. كان يقضي وقته على شواطئ تل أبيب، غير آبهٍ لكل التحديات والمشاكل الإنسانية في القدس. وعندما علمت أنه يستغل سيارات المؤسسة وسائقيها للهو والسهر، اعترضت على الموضوع..... ولم يمضِ يومٌ إلا وكانت استقالتي جاهزة.... يا لهُ من عملٍ إنسانيّ!

أ، أ، 26 عاماً، أنثى، غزة

يأتون هنا بعيونهم الزرقاء، في سياراتهم الفارهة، يملون علينا كيفية العيش والتكيّف مع الحصار، وعندما بدأت الحرب، لم يجرؤ أحدهم على البقاء في كل فلسطين... لا بل وسمعتم كلكم عن شاحنات المساعدات التي يتسلل فيها الجنود لتنفيذ عملياتهم! يا لها من طريقة لإغاثتنا!

ع، ر، 30 عاماً، القدس

أعمل على توثيق الهدم المتكرر في القدس. أحد المحامين الفلسطينيين، غافل أصحاب عقارٍ ما في إحدى بلدات القدس، وباعه للمستوطنين مقابل ملايين الدولارات! إنه يسكن في أغلى مناطق القدس، ولديه 3 فيلات في مناطق مختلفة. هذا توثيقٌ قانونيٌ مهم، لا تستطيع إقناع الناس الآن بأهميته!

استنفذت عدد الكلمات المسموحة لي لكتابة هذه المقالة عزيزي القارئ، لكنني لم أنته من القصص الكثيرة! واسمحوا لي أن أختم قائلاً: خذوا إنسانيتكم وانصرفوا....


الصورة: رسم تجريدي لأيادي أطفال متشابكة. المصدر: غير معروف.

أحمد ياسين

ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.

رأيك يهمنا