أَطفَال في ظُلُماتِ السِّجن: مَشاهِدُ تَشْلَع القَلب

لَن يُسعِفَني الحيّز المُتاح لي للإضاءَة على كلّ الجوانب المُظلِمَة، لكنّني سأحاولُ لعلّني أتمكّن من إيصال صَوت الأطفال/ الأَشبال المعذَّبين في السجون الإسرائيلية منذ اندلاع الحَرب على غزة، إلى الفَضاء الخارجي، وذلك مِن خلال عناوين عامّة. لَن أَذكُر السّجن الذي التقيتُ فيه بالأسرى ولا أسماءَهم الحقيقيّة لأسباب تتعلّق بأَمنِهم.
الدُّخول إلى السّجن
يَمرّ جَميع الأَسرى بتفتيشٍ عارٍ عند الدخول، هذا هو الإجراء الروتينيّ المُتَّبع، لكنّه يتحوّل أحيانًا إلى فُرصة لإطلاق العَنان لتصرّفات انتقامية لم يَعُد الاحتجاج عليها مُمكنًا. "خالد" في الصفّ العاشر، محكومٌ إداريًا: "دخّلوني للتفتيش العاري، وهناك هجموا عَلَيّ 5 سجانين وظَلّوا يِضُربوا فيّ لمدة تْخَيلتها دهر، واحد مِنْهم فكّ قيطان [ربّاطات] بوتي وفوّتلي إياهن بْتِمي، إشي مُقرف ومُهين".
العَزْل عَن العالم
لا تَواصُل مع العالم خارج جُدران السّجن، لا راديو ولا تلفزيون ولا تلفونات. تُعقَد جَلَسات المحاكم عَبر الشّاشات داخل السّجن. لا يُسمح بالاحتفاظ بساعات اليدّ حتى يَفقد الأَسير إحساسَه بالوقت. الأسرى مَعزولون عن العالَم بشكل كلّي تقريبًا، عدا النافذة الضيّقة المتمثّلة بزيارات قصيرة يَقوم بها المحامون بعد مُماطلة مُضنية [مِن مصلحة السجون]، زيارات صارت تتقلص زمنيًّا وتُحاصر بالتّفتيش في أوراقهم للبحث عن أيّ صورة أو خَبَر مِن العالم الخارجي. السؤال الأول الذي يَصفَعُني به الأسير فور بداية اللقاء هو "شو بِصير بَرّة، كيف الوَضِع، خِلْصَت الحرب؟".
يُجلَب الأسير لمقابلة المحامي مقيَّد اليَدَين والرِّجْلَين، وتُزال العَصْبَة عن عينيه قُبيل ذلك بلحظة، لا يَعرف إلى أين يُساق، إلى تحقيق أَم جلسة محكمة أَم مقابلة محامٍ، يعيش في ضبابيّة وظَلام، وهذا مِدماك إضافيّ في عمليّة العَزل المُمنهَج. قِسم من الأسرى لا يعَرف إن كانت عائلتُه تَعرِف مكانه.
المَلابِس ومُستَحضَرات النَّظافَة
منذ أن مُنِعت زيارات العائلات، لم يعد إدخال الغَيارات ممكنًا، مما يعني ألا يبدّل الأسير لِباسة الخارجي أو الداخلي طوال مكوثه في السّجن، قال لي "أحمد" المحكوم بسجن إداري للمرة الثانية: "بَسْتَحي أَفرجيك وَضْع "البوكسر" تَبَعي لأنه صار مّمزع وواسع كثير عشان ضْعفت 20 كيلو". لا عجب إذًا أن تنتشر الأمراض الجلديّة المُعدية كالنار في الهشيم، حيث لا مستحضرات نَظافة وتَعقيم ولا تعرّض لأشعة الشمس ولا رِعاية طبية ملائمة. يحصل الأسير عند دخوله على غَيار واحد وبَشْكير واحد وهذا لا يحدث دائمًا. يقول "علي": "ما أعطوني بَشْكير ولا غَيار بأَشْحَد من أصحابي بالغرفة، هاي الموجود". يحصل كلّ أسير على كأس صغيرة من الشامبو أسبوعيًا وهي الكمية التي يستخدمها لغسل الجسم والملابس وتنظيف الأرضيّة والمرحاض، وعلى لفافة ورق تواليت واحدة. غرفة السجن المُعَدّة لاستيعاب ستة أفراد على "الأبراش"[i] صار يُحشر فيها 10-13 أسيرًا نصفهم يَفترشون الأرض العارية، حتى وصل الأمر في أحد السجون إلى إصابة نحو نِصف نزلائه بمرض جلديّ مُعدٍ فتمّ عزلهم تمامًا مددًا تتراوح بين أسابيع وشهور. تُمنح كلّ غرفتين من غُرف الأسرى بين 10-30 دقيقة خروج يوميّ إلى الساحة وفيها الحمّامات، هذه الفترة مخصّصة أيضًا للاستحمام. "أمنيتي أقدر أنام ساعتين في الليلة"، قال "سري" ابن الـ 17 عامًا، فالجَرَب وحرارة الجسم المرتفعة والحَكّة إلى حدّ إيذاء النَّفْس والتسبب بجروح وندوب تُثقل على الجسد والروح وتَحرم المصاب بها من الراحة.
"الكَنْتينا"
مُنِعت "الكَنْتينا" أيضًا، و "الكَنْتينا" هي المَبالِغ التي يودِعُها أهل الأسير في صندوق السجن ليتسنّى له شراء حاجات تنقصه بأسعار احتكارية مرتفعة، والحقيقة أن هذه المَبالغ ما كانت ستَنْفَع بعد أن أُلغيت حوانيت "الكَنْتينا" وتحوّلت إلى غرف احتجاز.
الغذاء: لم أَلتقِ بشِبل واحد -منذ استؤنفت الزيارات بعد الحرب- لَم يَشتَك من الجوع. يُقدَّم الطعام بكمّيات قليلة. الكمية نفسها لكلّ الغُرَف بغض النظر عن عدد المحشورين في داخلها، يَصوم بَعضهم خلال النهار ليُراكم وجبَتَيّ الإفطار والغداء مع العشاء لعلّه يحظى بإحساس الشَّبِع مرةً واحدة في اليوم. الطعام خالٍ مِن السُّكر والملح والبهار، يفتقد الأسرى طعم السُّكر بشكل خاص ويتحدّثون عنه بشغف لا يفهمه من لم يختَبِر نقصَه شهورًا تتجاوز السنة أحيانًا. "مِشتَهي أَحسّ حالي شبعان وأوكل إشي حلو"، هذا ما قاله "منير".
يُعاني قِسم من الأسرى من تَساقط الشَّعر ويعزون ذلك إلى سوء التغذية.
دَخَل "ناصر" (17 عامًا) إلى المقابَلَة مقيَّد اليدين والرّجلين محنيَّ الظَّهر يسير بصعوبة بالغة، هزيلًا جدًّا وكأنه هيكل عظمي مغطى بالقليل من اللحم والجِلد، كان مَنظره صاعقًا، بدا وكأنّه رجل عَجوز. قال ناصر بإعياء ظاهر: " زمان كنّا نعمل رياضة في الغرفة الضيقة بسّ بطّلنا نِقْدر، بطّل فِيّ حيل، أنا دايمًا جوعان ومعنديش قوة. بصعوبة قادر أمشي".
الاقتِحامات
يقول "أحمد" إنه مَسجون منذ خمسة أشهر بحكم إداري ومَحشور مع 12 ولدًا في الغرفة، وقد اختَبَر بين 15-20 اقتحامًا نفّذتها قوّات القمع في السّجن أو ما تُسمى قوّة "متسادا" التي تُستدعى للقيام بالمهمة، لأتفه الأسباب. يُروَّض الأسرى على تقبُّل أيّ تصرّف مهما كان فظًّا وبعيدًا عن المنطق، بخنوع .... الاقتحام يَعني دُخول القُوّة والانهيال على الأسرى بالضرب بالهراوات بلا تمييز بعد تقييدهم والإطاحة بهم أرضًا، يترافَق الأمر أحيانًا مَع رشّ الغاز المُسيل للدموع. يَصِف "سعيد" أحَدَها: "دَخلت قوّة "متسادا" وصاروا يجلدوا فينا بحزاماتهم وين ما أَجَت تيجي، أنا شُفت الموت، قُلت: خَلَص رَح أموت، علامات الجلد مْعَلْمة لحدّ اليوم والأوجاع مستمرة".
حدّثني "عادل" عن ليلة الصواريخ الإيرانية، قال: "دخلوا عَلينا وكَلْبشونا وطلَّعوا كلّ الغُرَف للساحة، زَتّونا وكوَّمونا على الأرض وخَلّونا هناك مدة وإحنا مِش عارفين ليش، وبعد ما خَلَص كلّ إشي فكّونا ورجعونا على الغرف".
أَطفال غَزّة
بعد معركة عَنيدة، ومرور أكثر من عام على اعتقال "محمود" ابن الـ 16 عامًا في غزة -وقد كان معتقلًا مدة ثلاثة أشهر في مُعَسْكَر "سدي تيمان" قَبل نقله إلى داخل إسرائيل- التَقَيْت به. لم يكن يَعرف إلى أين يسوقونه، فوجد نفسه فجأة أمامي، وحين سألته عن حاله انفجَر بالبكاء طويلًا، لم يُصدّق أن أحدًا يَعرف بأنه حيّ، ولم يُصدّق أن عائلته نَجَت. مما قاله: "أنا مع كمان عشرة بالغرفة لشهور مَكُنّاش نطلع على الساحة، بعدين سمحولنا بعشر دقايق باليوم للتنفّس والحمام، بَس بطلعونا لحالنا وما بنختلط بباقي الأسرى، ممنوع نِحكي معهم". وقد كان "محمود" نحيفًا جدًا ولون جلده أبيض كالثلج كأَنّ الدَّم هَرَب من عُروقه.
[i] كلمة رئيسية في "قاموس" الأسرى الفلسطينيين، مفردها "بُرْش"، وتشير إلى "ما يُشبِه" السَرير ينامون عليه، ويمتاز بكونه غير مريح.

المحامية تغريد شبيطة
محامية متخصصة في مجال الأسرى الفلسطينيين