الوالديّة في ظِلّ الحَرب والجَريمة: لا تَدَعُوا الشّاشات تُرَبّي أبناءَكُم!

تَعود الحَرب من جديد، وتستمرّ آفّة العنف والجريمة في الانتشار فتنتهك حقّ الطّفل الفلسطيني في غزّة والضّفّة والدّاخل وتَحرمه الشّعور بالأَمن والأمان، فيشهَد على العنف والجريمة في ساحة بَيته، وحارَته وحتّى مساحات اللّعب العامّة، فيرى الأهل أنّه من الأفضل أن يَبقى الطّفل في المنزل من أجل الحفاظ على أَمنه وأَمانِه، ولكن فعليًّا يُواجِه الطّفل الفلسطيني اختراقًا لعقله وحدوده من خلال الشّاشات الذّكيّة الّتي ينكشِف من خلالها إلى أخبار العُنف أو إلى مَضامين تُفقِده طفولته قبل الأوان، وهذا أيضًا عنف من نوع آخر لا يقلّ خُطُورة تُمارسه وتُخطّط له منظومة عالميّة تريد أن تسلبنا حقوقنا وحرّيتنا في التّفكير والتّعبير.

علينا أن نتذكّر ما هو دَورنا وما هي مسؤوليّتنا التّربويّة، فالتّربية، والتّثقيف والوالديّة في مثل هذه المراحل المُجتمعيّة المُظلِمة هي طَوق نَجاة عظيم، لن تَرى تأثيره في الحال، لكن سيكون تأثيره إيجابيًّا مُستَقبَلًا لا محال. بِناء أساس تربوي فيه وَعي وثقافة حتّى في أوقات الأزمات يضمَن التّغيير المُجتمعي ولو بَعد حين.

التّربية كالزّراعة، لن تحصُل على الأوراق والثّمار بعد يومٍ ولا أسابيع قليلة من زَرع البِذرة، لكن ظروفًا بيئيّة ومناخيّة ملائمة وتوفير مياه بالكمّيّة المطلوبة والحِفاظ على مساحة آمنة لنُمُوّ البُذور الّتي زرعناها ستُثمِر، ونستمتع بالمنَتوج من طبيعةٍ جميلة، وظلّ، وجماليّة وثِمار، وهذا ما سيحصُل عندما نَزرَع قِيَم اليوم ولكن، علينا كأهل أن نزرَع القِيَم أوّلًا، ومن أجل زَرعها لا بُدّ أن نُحَدِّدها، نَعي أهمّيتها، نستمرّ في المُحافَظة عليها لتذويتها جيّدًا، وهذا ما لا يفعلُه الكثير من الأهل اليوم، فقد نلجَأ لبدائل ماديّة وتقديم الشّاشات الذّكيّة بِلا رَقابة فتختفي القيَم، ونخسَر وَقتَنا مع أطفالنا، فلا نُرَبّي ولا نُوَجِّه ولا نُتابِع ولا نَحزم.

هل هنالك معنى لذِكر يوم الطّفل الفِلسطيني بينما أبسَط حُقُوقه مسلوبة في غزّة والضّفة والدّاخل؟

طبعًا، فذِكر مِثل هذه المُناسَبات هو تذكير مهمّ لنا ولأطفالنا حول قيمَتهم الذّاتيّة والاستِحقاق.

هل هذا الاحتفال هو حقيقيّ؟ للأسف، نفتقر إلى السّعادة خاصّة في ظلّ الحرب القاسية على أبناء شعبنا وخسارة الطّفل الفلسطيني حقوقه الأساسيّة في العيش بكرامة والحصول على أبسط الحقوق كالصّحة، والتّعليم، والطّعام والشُّرب والشّعور في الأمان.

علينا أن نَعي مدى التّأثير السّلبي لمَواقِع التّواصُل الإجتماعي على أطفالنا. آفّة العُنف قد وَصلَت شوارعنا، وحاراتنا، وساحاتنا، ومدارسنا وبُيوتنا، فيسمع أبناؤنا أصوات قنابِل ورشّاشات، ينتبه أبناؤنا لمَشاعرنا، خوفِنا وذُعرِنا، يُشاهد أبناؤنا لقطات وڤيديوهات مُنتَشرة عبر مواقع التّواصُل وتصل الرّسائل إلى هواتفهم وبين مجموعات الأصدقاء بسُرعة البَرق، وهذا أيضًا يتطلّب منّا الحذَر الشّديد، حيث ينام الأطفال قلقين، وخائفين، ومُترقّبين، ومَعدومي الأمان، ونرى هذه المَشاعر من خلال كوابيس ليليّة، وتراجُع في التّحصيل العِلمي، وتراجُع في النُّمُوّ، وتأثير واضِح على علاقاتهم الاجتماعيّة، ومَهاراتهم التّعبيريّة العاطفيّة وغيرُها من الأعراض. لهذا علينا أن نكون أوعَى لحديثنا عمّا يحدُث أَمام الأطفال، وأن ننتَقي مُشارَكاتنا أمامهم، ليس بهدف الكذب وإرادتنا في أن يعيش الأطفال في عالمهم الوَرديّ، لكنّ لأنّهم غير قادِرين عاطفيًّا على احتواء هذه المَشاهِد، فَهُم عاجِزون عن التّعامُل وحلّ هذه الآفّة، لهذا إبعادهم عن هذه المَشاهد والأخبار فيه حِماية لصحّتهم النّفسيّة وتطوّرهم السّليم. ثانيًا، نُشارِك ونَكشِف أطفالنا عمّا يَجري فقط بهدف التّحذير، إعطاء آليّات للتّعامُل وأخذ الحيطة والحَذَر ورَفع الوَعي، خاصّة في الأماكن العامّة. وعن مُشارَكة الأطفال حول ما يَحدُث بشكل يتلاءَم مع جيلهم وقُدُراتهم يُمكن التّوجُّه بطلب المُساعَدة والاستشارة من الطّواقم التّربويّة أو المهنيّين المُختَصّين حتّى نُمَرِّر إرشاداتنا بشكل واعٍ يحمي ويُجَهِّز أطفالنا بدلًا من إخافتهم وزيادة توتُّرهم.

للحرب وآفّة العُنف تأثير، حيث إنّها تزيد من مستوى الخَوف والهَلَع وتتناقَل الصّدمة بين الأجيال، ولهذا فالتّعامُل مع المَخاوِف أَمر مهمّ جدًّا.

كيف يُمكن أن نتعامَل مع أسئلة الأطفال ومَشاعرهم؟

●      تحديد ومُراقَبة الانكِشاف لمَضامين وأخبار تتعلّق بالحرب وآفّة العُنف والجريمة.

●     في حال تمّ الانكِشاف لمواقف العُنف والجريمة، علينا احتواء المَشاعر، والإصغاء الفعّال لمُشارَكات الأطفال حتّى لو كانت صعبة جدًّا، انتابَنا بسببها غضب داخلي أو مَشاعِر تأنيب ضمير كونَنا لم نستطع أن نَحميهم أو نَمنعهم من الصّدمة. علينا إعطاء الشّرعيّة لكلّ شُعُور وعَدَم تَكذيب ما حَصل.

●     مع الأجيال الصّغيرة يُمكِن أن نستخدِم القصص الّتي تتعلّق بالمشاعر وأهمّية التّعبير عنها وعدم كَبتِها. نُطَمئِن أطفالنا أنّنا بِخَير بالرّغم من كلّ ما حصل وأنّنا معهم لنحميهم ونُساعِدهم في تخطّي هذه المشاعر. من المُمكن أن نُشارِكهم خوفَنا نحن أيضًا لكن مع التّاكيد على أنّنا في مَكانِنا الآمِن وأنّ كلّ شيء سيكون على ما يُرام.  الأطفال بحاجة للشّعور أنّنا طَوق نَجاة وأنّنا معهم، لن نتركهم وأنّنا موجودون لأيّ مُساعَدة.

●     مع الأجيال الأَكبر، جيل المُراهَقَة، مهمّ جدَّا أن نُحافِظ على قنوات تواصُل مَفتوحة وباب للحِوار. علينا أن نكون مُتاحين لأبنائنا ونتوقّع أسئلة ومُشارَكات في الأفكار والمَشاعِر. من المهمّ أن نَعي أنّ كلّ ما يحدُث مُخيف أيضًا للمُراهِقين كما الصّغار حتّى لو كانت طُرُق التّعبير مختلفة أو "مخفيّة" غير ظاهرة وغير واضِحة.

●     علينا كأهل أن نهتمّ نحن أيضًا بمَشاعِرنا، وأن نكون واعين لذواتِنا فنَعمل على تفريغ هذه المشاعر والأفكار بطرق مختلفة تُناسِبنا كما المُشارَكة في وَرشات فنيّة متعدّدة أو سيرورة علاج نفسيّة حتّى نستطيع أن نتفرّغ عاطفيًّا لأبنائنا ومُشارَكاتهم. لن نستطيع أن نَحتوي أطفالنا ونتفهّمهم بينما نحن نمتنع أن نتعامَل مع أنفُسنا. وفي حال أنّنا نستصعب التّحدّث مع أبنائنا حول كلّ ما يَجري وطُرُق المُواجّهة فهنالك ضَرورة للتّوجُّه لاختصاصيّين ومهنيّين وعدم التّخاذُل، فالمشاعر والمَخاوِف تكبُر معنا، تزداد وتنمُو، ومن المُمكن أن تنتقل إلى دوائر حياتيّة أخرى وفي مراحل متقدّمة، لهذا فالتّعامُل معها بجدّيّة أَمر مهمّ للغاية.

هل نيأَس؟

لا حياة من دون بَصيص أمل، فعلى مَدار السّنوات حَصَلت حروب وجرائم بحقّ الإنسانيّة واستمرّت الحياة مع كلّ طفل صغير يُولَد. العُنف لن يستمرّ والحروب لن تستمرّ، وعلينا كأفراد، خاصّة في ظلّ خطّة مدروسة تهدف قتلَ النّسيج المُجتمعي، أن نتمسّك بهُويّتنا، أن نُحَدِّد قِيَمَنا من جَديد، وأن نُرَبّي أبناءنا، وهذا ضروري، لا تَدَعُوا للشّاشات تُرَبّي الجيل القادِم.

ليكُن يوم الطّفل الفلسطيني في هذا العامّ إعلانًا لإيقاف الحرب والمُعاناة، وليكُن هذا اليوم تأكيدًا على أنّنا باقون وأنّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة.

رغدة برانسي

مُختَصَّة في مَجال الوالديّة ومُؤَسِّسة أهل - مَركِز إرشاد ومُرافَقَة للأهل والمِهَنِيِّين

رأيك يهمنا