الوالدية تحت القصف الجائر على غزة... الاختبار الصعب!
أكتب هذه الكلمات تحت قصف إسرائيلي عنيف يزيد من حالة الارتباك التي يمكن أن تصيب الانسان الطبيعي في مكان غير طبيعي وظروف غير طبيعية...!! أشعر بالتشتت والضياع للمرة الأولى منذ عدوانات متعددة 2008-2009 2012 2014 2019 2020 2021 2022 والآن 2023 كيف يمكنني أن أتجاهل أنني لم أعد أحتمل كل هذا الضجيج...! البيوت المبقورة الأحشاء، الأعمدة المتناثرة، الأسطح المنكسرة، الجدران المتصدعة، كيف يمكنني أن أشاهد بيوتا مقتولة وأخرى تتكئ على قلبها، كيف يمكنني أن أجدد تكرار الرواية وقتل الأطفال واغتيال أحلامهم..
طفلة تكتب وصيتها وهي على قيد الحياة/القصف
وصية الطفلة الغزية هيا التي كتبت خلال العدوان الأخير على غزة في أيار 2023
هيا طفلة تكتب وصيتها وهي على قيد القصف/الحياة، هيا لازالت على قيد الحياة لكنها لازالت طفلة يا إلهي كيف يكتب الطفل وصيته إلا في جنون كما جنون غزة ...!! بما يفكر أطفالك يا غزة...! يفكر أطفالك يا غزة بعد أن يعايشوا القهر والقتل والاستهداف نحو أجسادهم الضعيفة...؟!! كيف يمكننا توقع ما يفكره الآن والديها، بدلا من حماية طفلتهم من الموت أصبحوا الآن يفكرون بحمايتها من الحياة التي تنتظرها بمثل هكذا ذكريات...!
كيف يمكنني أن أعود وأقول شيئا مختلفا ولمن؟ وما جدوى أن أخبر العالم الأعمى بما لا يريد سماعه! لماذا أخبركم كأم أنني أهتز وبيتي في لحظات الفجر الأولى دون أن أفهم ما يجري من حولي؟! كيف يمكنني أن ولماذا أخبركم أن جارتي الأم قد قتلت على سريرها وهي نائمة هانئة؟! وماذا ستفعلون للأمهات والآباء هل ستقدمون التعازي، أم المواساة لمن فقدوا، أم لمن ظلوا أحياء سكارى من الألم؟؟!! ما الجدوى من تضامنكم من عدمه ما الذي سيغير المعادلة حقا؟؟!! مزيد من القتل.! الأعداد من يحصى شهداءنا ومن يحصي بيوتا قد ضجرت من دمائها فسالت في الشوارع على وجوه الناس، يا إلهي كيف يمكنني أن أحتمل تلك المصطلحات التي تغطي على قتلنا...!! جولة هدنة تهدئة؟؟!! هدوء ترقب حذر. من يشعر بنا كأمهات، وآباء، وبأطفالنا، وأقرباءنا؟ حقا بينما نحن نتضرع إلى الله فقط هو ملجأنا من عنف وجنون الطائرات الحربية الإسرائيلية؟؟!! الانفجارات لا تكتفي بذبحنا ووأد أحلامنا، بل تعاجل بعضنا بقتل في وضح النهار أو دجى الليل السحيق.!!
ماذا سأكتب في يوم آخر من الحرب اللعينة...!! لست متأكدة أن هذا المقال سيكتمل وماذا إن لم يكتمل لا شيء...!! ستتلقى عائلتي نعيا مؤثرا ثم ماذا ستضع الحرب أوزارها ثم كر وفر وموت وقتل جديد بتوقيت آخر مادام هنالك احتلال غاشم يسلب أرض فلسطين...!!
سأراهن أن أعود لرشدي وبعضا من عقلانيتي وحكمتي وكوني أم وإعلامية فإنني أؤمن أن هنالك من يجب أن يروى الحكاية، حسنا حسنا لنهدأ قليلا رغم أن الأصوات من حولي تكاد أن تسلبني عقلي كل شيء يتفجر، من الأرض ومن السماء وما بين السماء والأرض، أصوات انفجارات مختلفة متعددة نبرع أحيانا بتشخيصها فماذا سنفعل إن لم نفكر ما نوع هذه الصواريخ والقنابل الحربية يا وحدنا ...!!! يا وحدنا..
ربما هو اليوم الرابع أو الخامس لا أذكر.. لكن تتناهي إلى مسامعي أصوات صراخ الصغار في المحيط السكني الممتد حولي، لكن لا أصوات للأمهات، ولا الآباء، ولا العجزة، ولا المعاقين...!! لا صوت لهم لأنهم يدركون أن موتا قريبا يتساقط من السماء، يخفون صوتهم عل الطائرات الحربية تنساهم ولا تراهم، إلا الصغار لا يدركون حقيقة أن حقد أسودا يتمادى وغدرا إسرائيليا ينال من العائلات رجالا ونساء وأطفالا في بيوتهم ووقت نومهم، ومع ساعات الفجر الأولى يتسربون كسرب غربان سوداء لتغتال الأب والزوج، والابن، والبنت، والطفل.. ترتج المنطقة المأهولة بالسكان فتكاد أن تسمع أنينها وضربات قلبها...!!
هاجر خليل صلاح البهتيني، وعلي طارق ابراهيم عز الدين، ميار طارق إبراهيم عز الدين، ويوسف جمال صابر خصوان - أطفال غزة الذين استشهدوا خلال العدوان الأخير في أيار 2023
أحدق في كل شيء حولي، التلفاز يضج بالشاشات المقطعة، قصف هنا، قتل هنا، اغتيال بيوت وأطفال ونساء مدنيين، صوت المذياع الرقمي يصدح برسائل الإعلاميين من رفح وغزة والشمال هنا وهنا القتل مستمر، الطائرات الحربية الإسرائيلية لا تتوقف، الأصوات الهادرة في السماء كلما لاح شبح الحرب كلما زرعت في السماء لا تغادرها، تغتال صمتنا وتلقي حممها أينما شاءت وقتما شاءت، البيوت تهتز، الأرض تهتز وترتجف بفعل غدرهم، الأدخنة تملأ الشوارع الأتربة تنسحق بفعل الوجع كيف يمكن أن تشعر بك أتربة الأرض والبيوت وتواسي انسانيتك.!! أحدق في أبنائي كيف يمكنهم أن يعيشوا في مكان غير طبيعي، هل حقا يستعدون لامتحانات الثانوية العامة.!! كيف يمكنهم ألا يتأثروا بما يدور حولهم...!! أحدق في قططي الصغيرة التي تقفز فجأة من أماكنها ثم بعد ثواني معدودة يصلنا صوت الانفجارات القريبة البعيدة لنفهم أنها عرفت قبلنا بالموت القادم على شكل صاروخ...!
أفكر كثيرا قبل أن أصعد للطابق العلوي فمنذ بداية العدوان الإسرائيلي يتغير واقع حياتنا تماما بل ينقلب رأسا على عقب، نبقى في الدور الأرضي، نكتفي بالصالون للبقاء معا، الشبابيك طيلة الوقت مفتوحة حتى لو كانت لسعات البرد أقوى مع ساعات الفجر أو المساء خوفا من أي انفجارات حولنا، الأبواب أغلبها مفتوحة، لا مفتاح بأي باب حتى في بعض الأحيان يبقى باب الحمام دون اغلاق محكم خشية الجنون الذي يحيط بنا وبأي وقت وفي أي لحظة، لا خروج من المنزل حتى القاء القمامة نفكر عدة مرات قبل أن نقوم بذلك خاصة في تلك الساعات السوداء التي لا تبتعد الطائرات عن سماء مدينتنا..!!
صور الفقدان تحيط بأرواح العائلات والناس بعد كل انفجار، الفيديوهات لا تستريح ولو برهة لتخبرك بأن لا حياة طبيعية أبدا ولا هدوء يعني هدوء، بل يعني موتا.
الموت ينتشر في كل مكان في غزة وفي رفح وفي شمال غزة وخان يونس، فماذا يفعل العجزة وكبار السن الآن، ماذا يفعل مرضى الكلى وغسيل الكلي؟ ماذا يمكن أن يفعل الآباء والأمهات في هكذا حالة غير طبيعية وغير مسبوقة أو متوقع وقتها أو نتائجها.!
الرجل السبعيني يمشي به أبناؤه بين الركام صعودا وهبوطا وهو يردد وين ماخذيني؟! وين بدنا نروح يابا؟ ليجيبه أبناؤه في الشارع راح البيت يابا.. راح..!! يبكي الرجل ذو اللحية البيضاء وهو يجاهد قوته ليمضي بعيدا عن ركام منزله الذي أغارت عليه طائرات الاحتلال الإسرائيلي في شمال غزة، أما الشهيدة وفاء فقد رحلت في الليلة الأولى إلى ربها بينما هي نائمة بجوار زوجها في مدينة رفح ليودعا عالمنا هكذا في لحظات الغدر الإسرائيلي دونما حول ولا قوة منهما، فماذا فعل الآمنون في بيوتهم للاحتلال الغاشم، أما الصغير تميم داود ابن الخامسة الذي لم يحتمل قلبه صوت الانفجارات بجانب بيته بينما يلعب في الشارع فقد أصيب بسكتة قلبية واستشهد في مكانه ربعا وهلعا فأين هي حقوق الطفل الفلسطيني وحقوق الانسان من مكان كغزة..!
عدوانات متكررة تضرب عرض الحائط بكل مفاهيم الحماية الوالدية
من يملك توصيفا كميا لترويع 2 مليون ونصف من سكان قطاع غزة، فحيح الطائرات، الانفجارات المتتالية، القتل والاغتيال في وضح النهار وفي ساعات الفجر، الدم مستباح يليه دم وقلب للحقائق، جعل الضحايا مجرمين هو العمل الأمثل لمنظومة الاعلام الإسرائيلية، من يحتل أرض من؟ من يسلب دمنا ويخيف أطفالنا ونساءنا؟! ترويع الآمنين من نساء وأطفال وكبار في السن وعجزة وشباب وشابات هو هدف دولة الاحتلال الإسرائيلي ليس هنالك بنك أهداف لهم إلا أجساد أطفالنا ونساءنا، فمن في كل العالم يرانا ويسمع صوتنا؟! من يصدق القاتل ...!! ومن يقتل الضحية مرتين؟؟
تذكر وأنت تشاهد غزة تحت القصف...! الطفل زين ابن الــ 6 سنوات الذي يقف وبيديه حصالته البلاستيكية وقد انتشلها من بين ركام منزله الذي دمرت طائرات الاحتلال الإسرائيلي، ويجاهد نفسه كي لا يبكي وكلماته متقطعة بفعل القهر والحسرة: كنت بأحوش شواكل علشان أشتري سرير أنام عليه، أواعي الصيف والبحر كلها راحت...!! زين ابن بيت لاهيا بات مشردا دون منزل دون حلم بسرير ولا بإجازة صيف...!!!
فبينما الأب والأم يشجعان طفلهما على فكرة الادخار وصولا لتحقيق حلمه بسرير جميل خاص به كما باقي الأطفال، تجده يفقد بيته كيف يمكن لأب وأم أن يقاومان فكرة فقدان كل شيء يملكانه وفجيعتهما بمستقبل مخيف سيبدأن فيه من الصفر وقد أصبحا فقيران تماما وسيصبحان على قوائم المساعدات الاجتماعية التي لن تزيد عن 500 شيكل ربما كل 3 اشهر؟؟!! هل حقا هما قادران على الوصول لمنطق أو سبيل عقلاني ليخبران فيه طفلهما بأن كل ما قاما بادخاره على مدار حياتهم قد فقدوه في دقائق؟؟! كيف يمكن للوالدين أن يعيدا تصويب فكرة الادخار وحلم الطفل وما عاشه فعليا وما يشعر به الآن...!! إن المخاطر المحدقة بالطفولة والوالدية هي مخاطر حقيقية وأكبر مما يكتب فيها لأن الواقع أكثر خطورة في ظل عدم الاستقرار والدمار المريع الذي يحدث بعد كل عدوان، وحتى برامج التدخل النفسية والصحية في قطاع غزة ليست كافية ولا قادرة على مواجهة هذا القدر من العنف الإسرائيلي، وهو ما يفسر أحيانا لماذا الجيل الأصغر الآن أكثر صلابة وإيمانا بأن القوة هي الحد الفاصل لإنقاذهم وليست التهدئة ولا المهادنة إذن يفكر الصغير بألا شيء لديه ليخسره بعد أن فقد كل شيء الأمان والأمن وأفراد اسرته وبيته ومصدر رزقه، وكيف إذا فكرنا بطفلة وحيدة ظلت من عائلة بأكملها أو طفل وحيد بقى من كامل أفراد أسرته..؟!
حاول ألا تمرض في الحرب فلا مستشفيات تتسع لك، ولن تكون مريضا مرحبا بك، فالأولوية للشهداء والجرحى والمصابين والمشردين، حتى من أصابهم الهلع لا مكان يتسع لهم في ردهات المستشفيات من يخاف ويصاب بالهلع عليه أن يلزم منزله ليحافظ على حياته بالمقام الأول.
من يعيشون في غزة يجب أن يكونوا ذوي صلابة مضاعفة عن باقي البشر، يبتسمون للطائرات الحربية، ويلوحون بأجسادهم العارية لعنجهية الاحتلال، أطفال غزة الذين لازالوا يبكون ويصرخون ويهلعون لم يدجنوا بعد كجيل رابع خاض حربين أو أكثر وسيصبحون أكثر جلدا، ولما لا أين سيذهبون من حصار ملعون طال حدوده ومعابره؟! أين سيرحلون وحتى معابرهم مراقبة ووجوههم مراقبة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، أين سيتعلمون إلا في شوارع غزة وبين البيوت المتطايرة حولهم.!!
إذن كيف يحمي الوالدين أطفالهم وبماذا يفكرون تحت القصف؟
هنالك فرق شاسع ما بين مشاعر الخوف والقلق والترقب، وما بين الخطر الحقيقي بالقتل كل مشاهد غزة تشير إلى أن الأمر ليس خوفا عاديا، ولا قلقا إنما هو خطر محدق بكل أطفالها وعائلاتها، فلا مكان آمن ولا حماية تذكر لأحد لا مدنيين ولا أطفال هكذا لغة الأمر الواقع علمتنا، فكيف يمكن أن يجابه الوالدين كل هذه الأخطار وكيف يمكنهم الاستمرار في حياتهم؟ هذه أيضا ستكون ضمن نظريات المعجزات في غزة فلا أب ولا أم يفكر بشيء إلا كيف يمكنه حماية أطفاله.
أذكر في إحدى العدوانات أننا بقينا 52 يوما نعيش فقط في مطبخ المنزل اعتقادا منا أنه المكان الأكثر أمانا لأطفالي وهم صغار، كنا نفحص الخطوة التي سنتحركها في المنزل كل شيء أصبح في المطبخ مكان للنوم، مكان للطعام، مكان للحماية، وهنالك العشرات من الاحتياطات، بعيدا عن الشبابيك في حال تكسر الزجاج بفعل الانفجارات، بعيدا عن جهة الغرب حيث أراضي فارغة حولنا، بعيدا عن أصوات الانفجارات نوعا ما التي تضج في باقي أماكن البيت، بعيدا عن الطابق العلوي حيث تعلو الأصوات و يزيد الخطر، في هذا العدوان 2023 قال لي أحد أبنائي بعفوية ضاحكا، "فاكرة يا ماما لما خبيتونا بالمطبخ في الحرب زمان واحنا صغار.".!! لم يكن في اعتقادي أن هذه الذكري ستبقى بهذه القوة بعد 15 سنة تقريبا كأنها حدثت اليوم؟!! إذن كيف يمكنني الحديث عن الحد الأدنى من القدرة على أن ما هو موجود في كتب علم النفس ينطبق على حالتنا في تعاطي الوالدية تحت القصف المتكرر والمتواصل على مدار حياتنا؟! كيف يمكن أن نشير إلى أن التدابير الوقائية والتحصينات التي قد يتمكن الوالدين من القيام بها أو حتى الداعمين النفسيين والعاملين في مجال الدعم الصحي هي قادرة فعليا على التخفيف مما قد يواجهه أطفالنا في شبابهم ومستقبلهم، حتى لو اختلفت البيئة وانتقلوا لمكان أكثر أمانا...!!
تعزيز الحصانة النفسية واجبة مع استمرار القصف الجائر على غزة
الأصل هو انهاء الاحتلال الإسرائيلي، وانهاء الحروب والعدوانات على قطاع غزة، نعم هناك حاجة لإيقاف كل هذا العنف العسكري غير المبرر، والمطلوب هو بناء عالم أكثر إنسانية يمكن للوالدين وللأطفال أن يحلموا بشكل أفضل، وأن يفكروا بالهدايا وليس في الصواريخ والقنابل، أن يفكروا في حلم طفولتهم دون أزير الطائرات وأصوات الانفجارات المتتالية، أن يحلموا بغد أفضل لا أن يشاهدوا بأم أعينهم انهيار بيوتهم وبيوت جيرانهم، ومشاهد الدم والعنف الدموي الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي لا تفرق بين طفل وامرأة وشيخ بل تقوم بتجربة الأسلحة الجديدة على أجساد أطفالنا ونسائنا وأمام مرأى من العالم المتعامي.
ورغم كل ذلك فهنالك حاجة ماسة لبرامج شمولية ومتكاملة للوالدين ولتحسين الوالدية بالقدر المتاح، وتحصينها من خلال برامج دعم صحي ونفسي وفكري ليتمكنوا من امتلاك أدواتهم وقت العدوانات أو خلالها أو بعدها ما يساعد على تجنب الصدمات والكوارث المستقبلية على نفسية أطفالهم وأحبابهم، وتساهم في التخفيف من العقد النفسية والمشاكل النفسية التي قد لا تظهر مباشرة على الأطفال لكنها تبقى كجراح مريرة تؤثر في شخصياتهم مستقبلا، ولكن لا يمكنني في ختام هذا المقال إلا أن أؤكد أن حياة أطفالنا في ظل هجمات الاحتلال الإسرائيلي هي حياة قاسية ومرعبة وهي الاختبار الأصعب للرعاية الوالدية..!