الطفولة المبكّرة، محطّة الانقاذ الأخيرة في عالم يتجه نحو الفردانيّة

في تواتُرٍ مُتسارع يكتسي مجتمعنا بوشاح الفردانية وتزداد ممارساته نحو مركزيّة الذّات أكثر فأكثر. والفردانية في سياقاتها المختلفة توجّهٌ يخدم مصلحة الفرد ويعتبرها مسألة أساسيّة وجذريّة وفي مركز اهتمامها نائيةً بذلك عن اعتبارات الجماعات، المؤسسات والمجتمع عامّة. 

فتدعو الفرد إلى ممارسة أهدافه وتحقيق رغباته ليكون مُستقلًا ومُعتمداً على نفسه. ولا ضرر في هذه الجُزئيّة. الا أنّ السّلوكيّات على المستوى المجتمعي باتت تتبلور وتتشكّل كنِتاج لتعزيزٍ مبالغٍ فيه للفرد. فالنداءات المُتكرّرة التي تذوّت لدى السّامع حيّز الأنا مثل: "افعل ما يريحك", "ابحث عن هدوءك", "حقق ثراءك الخاص". كل هذا الضخ يجعل الفرد يتساءل دوما، ماذا حققت أنا لنفسي [أو لعائلتي المّصغّرة كحد أقصى فكل اسرة معنية بذاتها] وماذا أنجزت أنا؟

 وقد قادنا ذلك الى استثمار مواردنا من الوقت والكفاءات والمال، الى الاستثمار في امتلاك المزيد والمزيد كالعقارات، السيّارات والسّفريات. وهكذا تمحور الاستثمار في الممتلكات فتزايدت الحاجة من ثراءٍ الى ثراءٍ أكثر ومن ترفٍ الى ترفٍ أكثر لتحقيق شعور وهمي بالفردانيّة والنجاح وخلق صورة لمجتمع مترف ومرفّه. في الاشكال القصوى، يمكن للفردانيّة أن تدفع الأفراد لإعطاء أولوية لمصالحهم الشخصية على حساب الاخرين مما يؤدي الى تناقص التعاطف والاهتمام باحتياجات الاخرين أو المحيطين.  عندما يشجّع الأفراد السعي وراء مصالحهم وأهدافهم يؤدّي ذلك الى العزلة عن الاخرين والافتقار الى الروابط الاجتماعية. وإذا نُظر الى النّجاح الفردي كهدف نهائي فان الذين يتعذّر عليهم تحقيق النّجاح الفردي يمكن ان يتركوا في الخلف مما يؤدي الى عدم المساواة والظلم الاجتماعي. بالتّوازي، عدم الاستثمار في الانسان وفي الكينونة البشريّة يؤدي الى انسان والى بشريّة ضعيفة تفتقر الى مقوّمات الجهوزيّة من أجل الاخر نحو تحصيل حالة من النّمو التّكافلي والتّكاملي ونحو مجتمعٍ صحّيٍ قائمٍ على الأفراد برؤية ديناميكيّة جماعيّة.

في هذا المقام الشّائك، ليس بمقدورنا أن نكون مطمئنّين على أطفالنا. فمنذ أمد، باتت فكرة الفقاعة الوردية التي تحمي الطّفولة والاطفال وتحفظهم بمنأىً عن أي خدوشٍ وتهديد، باتت غير صحيحة. ما يحدث في مجتمع الكبار له تداعياته المباشرة بين الأطفال. حيث يكتسب الطفل القيم ويتعلم أنماط السلوك من خلال البالغين.

وبالتّالي، في عالم الوفرة والتّرف الذي نُغدقُ أنفسنا وأطفالنا فيه، نشهد كأهالي، سيدّات ورجالات تربية، نشهدُ بُهتانًا ان لم يكن تهالكّا بالقيم الي كانت سابقا مفهومة ضمنا على نحو: التّشارك في اللّعبة مقابل السّيطرة والتّحفظ ولا نتحدث هنا عن مرحلة التطور الشرعية وانما بوادر ظاهرة ومتكررة من الانطواء في اللعب والرسم والممارسات الاجتماعية المختلفة كالإقصاءات بناء على اعتبارات الشكل الخارجي او الاداءات. وكذلك، من خلال وضعيات اجتماعية متباينة يحتاج الأطفال الى التدريب على التعاطف مع الاخرين، فهم احتياجاتهم

وتعزيز التواصل الاجتماعي، الصداقة، العطاء، التّكاتف، العمل الجماعي والتّشارك من خلال العلاقات المتنوّعة: مع العائلة، الأصدقاء، المحيط القريب ومع الحيوانات والطّبيعة أيضا. ولكل هذا دور كبير في زيادة تقديره الذاتي مما يمكّنه من تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفيّة والمعرفيّة لديه.

واقعيًا وممّا لا مفر منه, يبدوان المجتمع سيتّجه الى المزيد من ممارسات التفريد وفصل الفرد منا نحو رغباته, أهدافه واحتياجاته الخّاصة وبالتّالي يحدّد هذا أمامنا, كوسطاء تربية أهالي مربيّات وأصحاب اختصاص على شتّى تنوّعاتها, مسؤوليّات مُضاعفة نحو مُرافقة ومُساندة الطّفل في مراحل تطوّره المبكّرة والأولى من أجل تطوير حصانة نفسية قوية وشخصية واثقة وتنمية حسٍ تعاطفيٍ سويٍ ليمكّنه من أن يكون طفلا واعيا لرغباته واحتياجاته وذو قدرة وسمات شخصية تعينه على تحقيقها وأن يدرك ويعمل هو أيضا على مساعدة, مساندة ورؤية أقرانه والأطفال أمثاله ليساعدنا على تخطّي الصّعاب وانقاذنا جميعًا كمجتمع.

حنان محاجنة

مربيّة، مُحاضرة ومُرشدة تربويّة في "كليّة دافيد يلين" في القدس

شاركونا رأيكن.م