يوميّةٌ على ورق ونار: يوميات الحرب

تشكّل كتابة اليوميات أحد الأنماط الكتابية المهمّة التي أمارسها وترافقني منذ الطفولة، وكنتُ بدأتها أسوة بأسلوب أبي وأجدادي وحيازتهم على مفكرة، في تدوين معلومات قليلة عن كلّ يوم من أجل الذكرى، لكن مع الوقت تحوّلت يومياتي واتخذت أشكالًا متعددة، منها ما يُكتب لأجل النشر والتوثيق، ومنها لحاجة شخصيّة ذاتية. 

تأتي أهميّة اليوميات في تأريخ الأحداث والذاكرة الشخصية، من رصد للماضي، وحفظه للمستقبل من النسيان وإمكانية مراجعته. كما أنّ لها أثرًا نفسيًا علاجيًا مهمًا من التفريغ في الزمن الحاضر، ومناقشة المرء الذاتية للأحداث التي يمرّ بها، وهذا يتعلق بأسلوب الكتابة إن كانت عميقة أم سطحية وشكلية في كتابة اليومية. وتأتي منفعة كلّ ذلك في خدمة التوثيق والذاكرة، خصوصًا في وطن تُهاجم فيه الذاكرة، وحفظها هو أحد أساليب المقاومة الثقافية كما يقول مفكرنا الكبير إدوارد سعيد.  اليوميات تُقدم الكثير من تفاصيل الحياة اليومية التي تسقط في التأريخ، وتُقدم صورة محسوسة ومقرّبة بشكل كبير للفترة الزمنية التي ترصدها. 

كلّ هذه الاستنتاجات وصلتها بحكم الممارسة والتجربة، بدءًا من التفريغ وعلاج روحي إزاء فقد أبي في الطفولة، إلى التأريخ الشخصي لأموري والتجارب الشخصية، إلى الاهتمام برصد التفاصيل اليومية وتأريخها، والتفاعل معها. كانت تجربتي الأولى في نشر اليوميات، بنشر 5 يوميات قصيرة عن مدينة حيفا في صحيفة القدس تحت عنوان "حيفا ذات صيف.. عيون موصدة". ثمّ جاءت التجربة الأكبر والأهم بكتابة اليوميات عن مدينتي القدس بنشر أوليّ في صحيفتها، ثم نشرها في كتاب "أسرار أبقتها القدس معي" عام 2016. ما أحدثته تلك اليوميات من ضجيج واهتمام، لتأريخها لأجزاء من مشهد الحياة اليومية في المدينة وسط الصراع عليها لفترات من 2012 وحتى 2015، أكّدت وجهة نظري في أهمية التجريب في كتابة اليوميات، وخدمتها للبحث والتوثيق. هذه الأهمية التي ظهرت بشكل استثنائي وأنا أعمل على البحث التاريخي الاجتماعي "الرامة.. رواية لم تروَ بعد" الصادر عام 2020. باستقاء الكثير من المعلومات عن الحياة اليومية من خلال يوميات ومذكرات ورسائل، كُتبت بين فترة 1913 وحتى 1952م، لأستفيد وأؤرخ الكثير من المعلومات عبر اليوميات في أزمان الحرب والسلم من تلك الفترة. 

في الحرب الحالية التي اندلعت في أكتوبر 2023، تشكّل اليوميات ملجئي مرّة أخرى للتفريغ النفسي، في مواجهة إجراءات كتم الصوت، والأهم متابعة يوميات الأدباء من قطاع غزة ومنشوراتهم على المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي. إذ أتمكن عبر اليوميات من فهم تفاصيل ما يحصل في الحياة اليومية لمواجهة ويلات الحرب، التي نسمع عنها في الأخبار. أهمّ هذه اليوميات المنشورة وأكثرها غزارة في الشهور الأولى من الحرب، هي يوميات وزير الثقافة الروائي د.عاطف أبو سيف والتي نشر بعضها باللغة الإنجليزية في صحف أمريكية وبريطانية، وبالعربية على موقع العربي، حتّى تمكنه من مغادرة القطاع بعد 3 أشهر من اندلاع الحرب.

ومنطلقًا من انتباهه لأهمية اليوميات في التوثيق للحرب، أصدر كتابًا جمع يوميات خمسة وعشرين كاتبًا/ة، شاعرًا/ة، فنانًا/ة، صحفيًا/ة، تحت عنوان "كتابة خلف الخطوط – يوميات الحرب على غزة"، أُطلق في مطلع شباط 2024. 

سأسلّط الضوء هنا على يوميات الشاعرة مريم قوش المشاركة في هذا الكتاب، وهي صاحبة ثلاثة إصدارات شعرية، وحاصلة على عدّة جوائز أدبية. مريم وبعد نشر عدة نصوص نثرية وقصائد قصيرة تحت عنوان (شعر الحرب) برفقة صور في الفترة الأولى من الحرب على صفحتها على فيسبوك، نشرت في 4 ديسمبر 2023 أول يومية لرصد يوميات غابت، باستشهاد خالتها نعمة وابنتها ريم وحفيدها هشام بعد مغادرتهم بيت مريم في مخيم النصيرات. وبدأت منذ ذلك الحين بنشر يوميات متفرقة، بلغة إبداعية وأسلوب شيّق تتمكن فيه من اصطحاب القارئ إلى الحدث، اختارت كمشاركة منها لكتاب اليوميات الصادر عن الوزارة، ثلاث يوميات، في الأولى والثانية توجد إحالة وربط مع نكبة 1948.  

تحت عنوان "هل اشتقت لسنابل البلد؟" في 19 ديسمبر، كتبت مريم عن طاحونة القمح الحجرية التي تخصّ جدّة والدها، والمحفوظة في بيتهم كتذكار من أيام "البلاد" ورُكِنت لأربعين عامًا في زاوية المكتبة، مع تفصيل لما شملت تلك الزاوية من مفتاح العودة وساعة اشتراها الجد من القدس... تقول مريم: "كنت أتخيل أنّ ذلك الرف مجرد مكان للتأمل. مكان نقرأ فيه الماضي لا أكثر، لم أتخيّل للحظة أنّه مرآتنا التي سنرى فيها حاضرنا بعد أزمنة.. لم أتخيل للحظة أنّنا سنطحن عليها قمحنا ونروي لها حكاياتنا التي لا تنتهي" في إشارة إلى الحال الذي وصل اليه القطاع بتوقف عمل المخابز، وحاجة العودة إلى الأدوات البدائية لتوفير الطحين والخبز. 

في اليومية التالية بتاريخ 24 ديسمبر والمرقمة بالأولى في الكتاب، نجدنا في وقفات أمام غرف البيت على أثر قرارها وعائلتها بالرحيل. تمرّ مريم على مكتبة جدّها، ومقتنياتها وتُفكر ماذا يمكن أن تحمل معها؟ "ماذا آخذ في حقيبتي وماذا أترك؟ هل أحمل أيضًا شباك غرفتي المطلة على بيارة البرتقال؟ هل بوسعي أن أحمل معي بيتي للمنفى؟ هل آخذ مفتاح سيارتي؟ أم أكتفي بحمل الدرب الطويل على كتفي وأمضي دون ذاكرة؟" هذا المشهد الذي يحيل إلى ذاكرة تساؤلات أجدادنا في وقفاتهم أمام بيوتهم وحاجاتهم وماذا يحملون معهم؟ في وقفة مريم وحيرتها في تلك اللحظة الفاصلة، تشكّل نموذجا لتساؤلات وتجربة عاشها ويعيشها الغالبية العظمى من سكان القطاع، مرارا أمام حاجة تكرار تجربة النزوح. 

في اليومية الثالثة، كتبت مريم عن حديث قصير مع قريبة ترثي حبيبها الشهيد، وتصف جلستهما ناقلة لنا واقع العيش في مخيم النزوح "ما أثقل هذه الليلة التي نقضيها بجانب شجرة التين في خيمة النزوح، أضواء النجوم منقطعة، الزنانة اللعينة تمضغ سكون الليل، مذيع الجزيرة الثرثار على الراديو المحلي، زاويتنا من الخيمة التي يخفت ضوؤها بينما تفوح أحاديث جاراتنا وهن يصنعن وأمي البسكويت للبيع في قارعة النزوح".

الأسئلة ولوعة فراق البيت وقرار النزوح من عدمه وواقع يومياته، تظهر في يوميات العديد من المشاركات/ين في هذا الكتاب مثل يومية د. إيمان ناطور وآلاء عبيد. ربّما لم يدرك أجدادنا في عام 1948 وما قبلها، أهميّة اليوميات والملاحظات التي يدونونها في دفاترهم.، لكن مع إدراكنا اليوم لتلك الأهمية القصوى، يأتي رصدُ هذه الأسئلة والتجارب الشخصية في زمن حدوثها، ناقلا واقع الحدث كما هو بأعلى درجة من المصداقية، ليُشكّل شهادة على الحرب وتأريخًا لأحداثها، وبعض التفريغ النفسي والأمل حين يجد المبدع أنّ صوته يصل وهناك قراءٌ يشاركونه همّه الشخصيّ/ العام. 

نسب أديب حسين

كاتبة وباحثة لديها 8 إصدارات أدبية وبحثية، تختص بهوية القدس الثقافية، والرواية الجمعية، وتدير متحفًا تراثيا

شاركونا رأيكن.م