ستّي فاطمة وسؤال اللا وعي الجمعيّ
ما كادت فاطمة الرّضيعة تخطو خطواتها الأولى نحو الحياة في أواخر الحكم العثمانيّ في فلسطين، حتى سيقَ والدها إلى التجنيد مرغمًا في الجيش التركيّ، وانتُزع من بين عائلته، يجرجر أذيال حياته التي لم تعد ملكًا له، ليودّعهم نحو الفراق الأبديّ.
أمّا "فاطمة الطفلة" فما كادت تتذّوق معنى الفراق والهجران حتّى تلاه فراقٌ آخر إذ أُجبرت والدتها على الزواج والرّحيل بعيدًا في وقتٍ لم يكن يمكن لامرأةٍ أن تعيش وحيدةً في بلدةٍ ينهشها الفقر والجوع، وينهش أبناؤها النساءَ أيضًا.
نشأت فاطمة يتيمةً في بيت عمّها، وشبّت في ظلّ الانتداب البريطانيّ (الذي استبدل الحكم العثمانيّ)، لا تملك إلا إرثها الصغير من أرض والدها، وإرثها الكبير من الوجع والغبن والإساءات والاحتلال والفقر والفقد والهجران. ولأنّ أحدًا لم يكن قادرًا على مواجهة الإرث الثقيل، فقد انشغلت العائلة بالإرث الصّغير الذي لم يكن ينبغي أن يضيع بزواجها من غريب، ليجبَر ابن العمّ على الزواج منها حفاظًا عليه، وبعد أن أنجبا بناتٍ وبنين، عانقت فاطمة (المرأة الأمّ) صعقتَها بصدمةٍ جديدةٍ إذ هجرها الزّوج وغاب.
كانت قد حلّت النكبة والتّشريد والانكسار الأقسى، لتعيش فاطمة المهجورة شيخوختها برفقة وجعها الفرديّ والجمعيّ في آن، ولتبدأ رحلةً جديدةً من المعاناة حتى فارقت الحياة مع حلول النكسة واحتلال ما تبقّى من البلاد.
إلى هنا أكتفي بهذا القدر من حكاية "ستّي فاطمة"، جدّتي لأبي التي غادرت العالم قبل ولادتي بسنوات، واستحضرتُها في مسار تأمّليّ روحيّ ونفسيّ عميقٍ، خضتُه محاولةً فهم مركّبات تشكيل وعيي الفرديّ أو الجمعيّ، لأتوقّف أمام ما نعيشه من واقعٍ تتكرّر فيه ذات الأنماط جيلًا بعد جيلٍ، مهما اختلفت الحيثيّات، وتساءلت مذهولةً:
لماذا لم نعرف يومًا خلاصًا من معاناةٍ إلا بالدّخول في معاناةٍ أكبر؟ هل يعقل أنّنا نتوارث استعدادًا ما لنكون ضحايا؟ وكيف تتحوّل النماذج الأولى من اختبارنا للحياة إلى أنماطٍ تتكرّر باستمرارٍ فيما بعد؟
قد يبدو من غير العادل أن تسائل ضحية عن مسؤوليّتها الذاتية في معاناتها، خاصّةً حين تتجمّع كلّ الدلائل والوقائع المتناسلة قرونًا لتثبت أنّها ضحية! وحتّى لا يفسَّر طرحي من باب جَلد الذات، أو تبرير الظّلم، أؤكّد أنّ هذا المقال لا يسعى إلى التقليل من هَول الفواجع التي نشهدها، ولا يهدف إلى المساواة بين ضحيّةٍ وجانٍ على مستوى الفعل، لكنّه دعوةٌ ومحاوَلةٌ لسبر غَور اللا وعي الجمعيّ، بأمل إيقاف "كتل الألم" عن التكاثر.
أعترف أنّي في مساري الشخصيّ، وجدتُ كلّ لغات الكون تستجيب لي، وتجلّت لي تفسيراتٌ روحيّةٌ وطاقيّةٌ وكميّةٌ وعلميّة هائلة، لكنّي أفضّل التركيز هنا في بعض ما يقوله علم النّفس تحديدًا ممّا يتّسع له المقام.
ترى نظرية العلاقات مع الأشياء object relation theory، أنّ تفسيرنا للأحداث في طفولتنا الأولى يخلق أفكارنا عن الحياة، ويرسّخ أسس نموّنا الانفعاليّ والاجتماعيّ وأدوات التعامل الذهنيّ معها. وما أكثر الدراسات التي تشير إلى النبوءة التي تحقّق ذاتها استنادًا إلى تلك التفسيرات، فتنتج أحداثًا مشابهةً وتكرّر أنماطًا متلاحقةً منها.
وتوافقها نظرية التعلق attachment theory، التي تؤكّد أنّ أول سنتين من عمر الطفل تشكّلان مفهومه عن ذاته وعن الآخرين، من خلال علاقته بأمّه (أو بمقدّم الرعاية)، فيذوّت اعتقاده عن مدى استحقاقه للحبّ والاحترام، وعن الآخرين كشركاء اجتماعيين يستحقّون الثقة. وتورد لنا الدراسات أمثلةً حيّةً على أن أيّ خللٍ في هذه المفاهيم (بما يسمّى بأنماط التعلق غير الآمن) كفيلٌ باضطراباتٍ انفعاليّة واجتماعيّة، تنعكس في كافّة مناحي الحياة والعلاقات.
وبالعودة إلى حالة "ستي فاطمة" باعتبارها نموذجًا لجيل كامل، تساءلت عن مدى اعتقاد عقلنا الباطن باستحقاق الحياة الكريمة، وباحتماليّة وجود الأمان في عالمنا، ومدى إدراكنا للماضي درسًا وعبرةً أم دمعةً نتوارث ذرفها والغرق فيها والاتّحاد بها لإعادة تجسيدها!
ولفهم العقل الباطن في النفس البشريّة لا بدّ من العودة لنظرية فرويد في التحليل النفسيّ، ومركّب "الأنا" الذي يحتال على الواقع بآليّاتٍ دفاعيّةٍ تسعى للتخفيف من حدّة الصراع الداخليّ، بيد أن الإشكالية الأصعب أننا لا نكاد ندرك منبع الشعور أو الفكرة الأصليّة، بل نلتمس فقط نتائج آليّة الدفاع ضدّه/ا. سنفهم هنا كيف أنّ الهرب من صراعٍ داخليّ ينتج صراعاتٍ خارجيّة حتميّةً.
فالعقل الباطن في الصّدمات الجمعيّة، تندفع مساراته دفاعًا ضدّ خوف عميق يحرّك الإنسان ويستعبده دون أن يدركه، وينتج معتقداتٍ معيقةً تبقيه في دوائر ما يسمّى "دماغ الزواحف" الذي يتفعّل من برامج صراع البقاء، ويحول دون تفعيل الجزء الأعلى من الدماغ المتمثل "بالقوة الخلاقة"، وبدل أن يكون عقل المرء أداةً لخدمته، يستحيل إطارًا يسلبه حرية التفكير ويوقعه في قيود آليّات الدّفاع، ومن أخطرها الإسقاط على أمر خارجيّ، ليشعر بالرّضى لأنّه ضحية أحدهم وليس مسؤولًا عمّا يحيا. وهذا ما تفسّره أيضًا نظريات العزو السببيّ في الدافعية. فإذا عزا الإنسان حالته إلى وجهة ضبط خارجيّة لن يمتلك دافعية حقيقية لتغيير واقعه، وسيظلّ في دوائر ردّ الفعل.
ينطبق هذا على كل أطراف الصّراع بغضّ النظر عن ميزان القوى ومصداقيّة الرّواية، حيث ينبعث كِلا السّلوكين من دافعٍ واحد هو الخوف الدفين المنبعث من علاقاتٍ غير آمنةٍ عزّزتها الصّدمات الجمعيّة، وبرّرتها آليّات دفاع إسقاطيّة، وغذّتها أنماط تعلّق شوّهت الرّؤية للذات وللآخر، بينما تختلف المصبّات والطرق وحسب. وقد يتّسع المجال في سياقٍ آخر لرؤية العلاقة العميقة بين المحرقة والنكبة وانعكاسها في اللا وعي الجمعيّ لكلا الشعبين وأثرها في الصراع المستدام.
هل يعني هذا أننا في دوائر مغلقة لا تنتهي؟ وكيف نفكّك الأنماط المتكرّرة التي يشهد تاريخ هذه الأرض أنّها ممتدّة منذ قرون، في أعماق اللا وعي الجمعيّ المتمسك بكتل ألم تكبر وتتعاظم؟
قد يحتاج أحدنا أن يسأل نفسه: هل أملك شجاعة مواجهة منابع الخوف والألم في أعماقي ومعايَنتها؟ هل أتمسّك بالألم وأستمدّ منه هويّتي أم أنّي مستعدّ لرؤيته ممّا وراء الشعور؟ وهل أعتقد حقًّا بأنّي قادر/ة على التغيير أم أرتاح لكَوني ضحية؟ هل أشعر بالذّنب تجاه الفشل المتكرّر؟ هل أستحقّ الحريّة حقًّا أم أتشبّث بآليّات دفاعٍ ضدّ القيود؟ هل أنا حرّ من عقلي الباطن أم مقيّد ببرمجاته؟
أعترف أنّ مثل هذه الأسئلة ومراقبتها بالميتا شعور والميتا أفكار، كانت كفيلةً بخروجي من عنق ألف زجاجة حارقةٍ وإيقاف سيولٍ من المعاناة، وخلق واقعٍ ذاتيّ مغاير، جعلني أمتنّ "لستّي فاطمة" في عالمها. وكلّي أملٌ أن نتحرّر جميعًا داخليًّا لعلّنا نخلق واقعًا أصفى بوعيٍ وإدراك.
والسّلام على الجميع.
الصورة: لرفعت ترك، إبن مدينة يافا وكانز معرض "وشراعي في مينا يافا" الذي يتناول تاريخ يافا وأهلها بين الأعوام 1880 – 1948.
أنوار الأنوار
دكتوراة في علم النفس التربويّ والإرشاديّ- كاتبة وأخصّائيّة تنشئة مهتمّة بالوَعي الرّوحيّ