أدب فوق أرض الحرب
كثيرةٌ هي الأعمال الأدبيّة التي تناوَلَت الحربَ وأَثرَها وما شكلته بآلامها وقسوة مآسيها.. لتُظهر الدور البارز للأدباء في مناهضة الحروب من خلال كتاباتهم. حيث إنّ واقع المذابح البشرية فوق أرض الحرب وأحداث الأبطال الذين عاشوا القصة والأرواح التي أُزهِقَت والدماء التي أُريقَت.. وكل ما يجول في خاطر الكاتب من مشاهد وأفكار، ومشاعر، وأحاسيس، وخيال.. كان دائمًا موجودًا ومتجليًا في العقل والقلب والوجدان.. قبل أن تتحول الكلمات إلى إبداعات وسطور أدبيّة خالدة.
هذا النتاج من الأدب هو أدب الحروب. أدب إنساني يرفع من قيمته وشأنه، يُزكّي القيم العليا في النفوس.. ويقفُ في الدفاع، إلى جوار العامة والشعوب والحقيقة. فالأعمال الأدبيّة ظلٌ للبشرية ولها أهمية بالغة في تغطية الجانب النفسي والتربوي ودعمه لدى الأجيال القادمة حتى تصمد أمام تحدياتها المستقبليّة.
يعودُ تاريخ أثر الحرب على الأدب إلى القرن السابع قبل الميلاد.. إذ تعتبر ملحمة "الإلياذة والأوديسا" التي تحكي قصة حرب طروادة للشاعر اليوناني "هوميروس" من أقدم نصوص الأدب العالمي في هذا المجال.
أما العرب فقد عاشوا في الجاهلية والإسلام حياةً حربية مستمرة بين القبائل.. وكان للشعراء دورٌ في المعارك لا يقلُّ عن دور الفرسان فيها. وقد اغتنى أدبهم في هذا الباب اغتناءً كبيرًا. ولكَمْ ذاقوا من حَرِّ الحروب ما ذاقوا، واصطلوا من نارِها ما اصطلوا!!
وهذا ما عبّر عنه زهير بن أبي سُلمى:
وَمَا الْحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ
وفيما تباهى شعراء العرب بحروبهم على مدار الأزمنة والعقود.. كانت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تعج بكتَّاب وروائيين ينتقدون أصحاب الآراء والأفكار المناوئة للحرب. وقد أشار الكاتب الفرنسي إميل زولا في رواية «الهزيمة» إلى نهاية الميول والغرائز الحربية التي كانت سائدة في القارة الأوروبية. كذلك عمِل فيكتور هوغو على تخصيص قسم كبير من رواية «البؤساء» لشجب المعارك الدامية والبكاء فوق أجساد القتلى.
وكيف ننسى رائعة الأديب الروسي الشهير ليو تولستوي إلياذة العصور الحديثة، "الحرب والسلم" والتي تدور أحداثها في بدايات القرن التاسع عشر، إبّان الاجتياح الفرنسي لروسيا بقيادة نابليون بونابرت، والتغيرات التي لحقَت بالطبقة الأرستقراطية.. وقد ترجمت الرواية لعدة لغات عالمية.
ربما كانت رواية "كوخ العم توم" للكاتبة الأميركية هيرت ستو والتي نشرت عام 1852 أولى روايات الحرب التي لامسَت أفكاري ومشاعري في بداية عهدي بالقراءة. وقد قيل بأنّ هذه الرواية التي تدور حول مكافحة العبودية وطرح معاناة الأمريكيين الأفارقة، ساعدت في وضع الأُسس للحرب الأهلية الأميركية، وظلَت الأكثر مبيعاً في القرن التاسع عشر بعد الكتاب المقدس.
أما في بداية القرن العشرين، عندما أصبحَت الكرة الأرضية مسرحًا لحربين عالميتين وحروب دامية أخرى، تموضع عدد هائل من كتَّاب الرواية والأدب ضد الحرب. وبادرت الحكومات المتورطة في الحرب إلى تخويف المثقفين والكُتَّاب وإرهابهم، (كحالنا اليوم)، من أجل مواصلة نهجها العسكري لتدمير القارة الأوروبية. وانتهَج أغلب الرواة والشعراء سياقًا مختلفًا لمناهضة الحروب المدمرة، وأصبحَت رواياتهم موضع اهتمام الرأي العام الخارج لتوه من أتون تلك الحروب.
وظهر إرنست همنغواي في أولى رواياته "وداعًا للسلاح" التي كتبها خلال الحملة الايطالية في الحرب العالمية الأولى عام 1929، يدعو إلى السلام والحياة الهادئة المستقرة بعد فترة عانت فيها الإنسانية الويلات وذاقت صنوف البلايا والأحزان. كما صدرت رواية "ذهب مع الريح" للكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل عام 1936 التي تلامس الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب الأميركية.. وتمّ تحويلها إلى فيلم شهير.
أما الروائية السورية غادة السمان فقد تنبأت في روايتها الرمزيّة "بيروت 75" بحرب أهلية تجتاح لبنان.. وقد تحققت نبوءتها. فيما ناقشت الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن في روايتها "طابق 99״ مشاكل ثقل الماضي المرتبط بعداوات الحرب والتي وصلَت للقائمة القصيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر لعام 2015.
وفي الساحة الفلسطينية تفرّد كبار الكتَّاب عندنا في قوة الكلمة وأثرها الحاد على الناس والحكومات، فهذه فدوى تحدثنا في "الرحلة الأَصعب" عن انغماسها حد الموت في قضايا وطنها المحتل وعن اللقاء التاريخي مع وزير الحربية موشيه ديان في أكتوبر 1968 والذي قال: "لديكم الشاعرة فدوى طوقان التي تكفي قصيدة من قصائدها لخلق عشرة من رجال المقاومة".
والقائمة تطول وتطول..
نقرأ إميل حبيبي الذي شكّل تيارًا أساسيًا في الرواية العربية المعاصرة حيث تختلط الحرب والسياسة بالسخرية ليجسد "التراجيديا" الفلسطينية وصراع البقاء الذي خاضته الأقلية الفلسطينية التي بقيت متشبثة بالأرض والوطن بعد نكبة 1948. وفي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) يصوّر حبيبي كابوسية المصير التراجيدي لشعب انشطر نصفين داخل الوطن وخارجه. وفي "سداسية الأيام الستة" تدور الحكايات حول عودة الفلسطيني إلى بعض من أهله من خلال واقعة الهزيمة عام 1967. إنها عودة معكوسة تبدو فيها الهزيمة مفارقة ساخرة.
وماذا عن سائر شعراء المقاومة الذين وُلدَت قصائدهم من رحم المعاناة؟!
لذا نعلّي الصوت مع راشد حسين هاتفين:
"بالأغاني حَرّروني
بالأغاني اعتقلوني
بالأغاني
قائلُ الشعر مُغامرْ
وأنا شِعرٌ
وكلّ الناس في عَينيَّ شاعرْ
جَرِّبوا أَنْ تقتلوني
أبداً لن تجدوني
بأغانيَّ، أنا أقتل عرشاً
وعلى ذوقي أنا، تمشي الأغاني
فلتكنْ حربُ أغانٍ
بالأغاني… سوفَ أغتالُ أغانيكم
جميع الكذبِ فيكم"
هكذا هو "الأدب فوق أرض الحرب". ركنٌ للتسامح مع الذات ومنصة للتعبير عن كل ما تقاسيه الشعوب من ألم إنساني منذ قابيل وهابيل وحتى الحروب العالميّة وما تبعها من حروب إقليميّة تكاد تغطي وجه الكرة الأرضية.
وهو ألم من الممكن ألا ينتهي..
رنا أبو حنا
كاتبة وناشطة في عدة جمعيات ثقافية وإجتماعية. موجهة مجموعات وفعاليات في الكتابة الإبداعية وإثراءات جماليّة في اللغة العربيّة. في حوزتها العديد من الإصدارات الأدبيّة الهامّة في أدب الرثاء والمواضيع الإجتماعيّة وقصص الأطفال