"لا داعي لعنوان"
أنت في حضرة النساء أيها القارئ! أنت في كنف الجميلات، القويّات، المثابرات، الصابرات، الصامدات، وكل الكلمات المنتهية بحروف التأنيثِ، ألفٍ وتاء. أنت يا سيدي في حضرتهن.. لم يكن ولن يكنَّ كالباقيات.... وإنني أعتقد أن معايير جمالهن لم تؤخذ بالحسبان بعد، فقد تفوقن على ميزان المعايير آلاف السنوات الضوئية... هنَّ من لم ينجح قيس بن ذريح مجنون ليلى، ولا عنترة المُتيّم بليلى، ولا نزار قبّاني عاشقُ بلقيس الراوي في وصفهن!
هل علمتم الآن لماذا تعونت هذه المقالة بما تعنونت به؟ أما زلتم تعتقدون أنكم بحاجة لعنوان؟
حسناً، لنترك الرومانسيات جانبًا، ولنكن واقعيين بعض الشيء. بالرغم من قناعتي التامّة أن ما يمر به الغزيّون، يتأثر به البشر قبل الحجر، والهواء قبل الضياء، بشكلٍ متساوٍ لا شكَّ فيه، إلّا أن النساء بشكل خاصٍ يعانين بأسلوبهن، ويتألمن من خلال عالمهن، ويثُرن بطريقتهن، لا وبل يشتكين على هواهن! وفي ظل التطرق لهذا السياق، أي سياق المعاناة المركبة للسيدة الفلسطينية في غزة، سأطرح عليكم الموضوع من وجهة نظرهن، وسأحاول أن أكتب القليل من الكلمات، فكلماتهن أقوى من أن يتم تحليلها أو تعبيرها أو الكتابة حولها. وإن هذه الكلمات تم اقتباسها من منشورات بعض الغزيّات على فتراتٍ مختلفةٍ من الحرب، بالرغم من تأكيدهن جميعًا، أن الزمان والوقت توقفا عند السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وعليه فإنني أقف إجلالاً واحتراماً وتقديراً لكل النساء الأحرار في غزة... أقف وقفة عزٍ وشموخٍ في مشهد سرياليٍ كضابطٍ وقف بتحيةٍ عسكريةٍ لجنوده بعد حربٍ داميةٍ، أو كأبٍ، استشهد ابن ابنه، بعد اشتباكٍ مثقفٍ طويلٍ، كان فيه باسلاً... أقف لكنّ جميعاً... يا سيدات العالم!
وبالحديث عن الوقت والزمان، وقبل عرض مجموعةٍ من المنشورات عليكم، فإن الزمان انقسم عندهن لعدةِ أقسام: زمانٌ كانت فيه الحياة منطقيةً بعض الشيء، والأمور المختلفة تعني شيئاً ما، وزمانٌ اختلفت وتخالطت فيه منطقية الحياة مع تفسيرات معاني الأمور والأشياء، وزمانٌ لم يعد فيه معنىً لأي شيء! ولا تقلقوا إن لم تفهموا شيئاً من هذه الجملة، فأنا، كاتب هذه المقالة، عقلي لا يُفكر بالشكل الصحيح المنطقي دوماً عند الكتابة عن غزة.
إذاً، ماذا كتبت بعض من سيدات فلسطين الأولى لغاية يوم الخميس الثامن من شباط من عام 2024.....؟
تقول إيمان زعنونة، في نهاية عام 2023 المنصرم: "هذا العام، نبتَ لي شعرٌ أبيض، فقط على يسار الجبين، تماماً أعلى قلبي". أسمعتم بلاغةً وفصاحةً في تشبيه الألم، يفوق هذا التشبيه؟
وتزيد على ذلك لتقول: "يسألني أصدقاء من
خارج المدينة: كيف حالك يا إيمان؟
هل أنتِ بخير؟
ابتسم، أجيبهم: يقول درويش في قصيدة
رسالة من المنفى: أنا بخيرٍ،
رضوضٌ في المشاعر
وكسرٌ في الخاطر،
وبعض خدوشٍ على الذاكرة
يقول الطبيب: لا شيء مُميت
خلعٌ في الروح فقط.. لا شيء مميت
أنا بخير، فلا تقلقوا!
يا الله، ما هذا الوجع الذي تمر به إيمان وغيرها من النساء لتصف حالتهن بهذه الكلمات، ولتستنبط من كلمات قصيدة لدرويش!
وتختتم لتقول ساخرةً على الوضع السياسي في نقاشات الهدنة:
"125 يوم! طالما هاد الطرف ردّه إيجابي، وهاد الطرف بيرحّب، أنا
ليش لسا بينطخ عليّ!؟" وأجيب أنا، إن هذا الطرف يحاول أن يزرع كرامةً
وذاك الطرف يحاول استعادة صورةٍ استعماريةٍ، وهؤلاء اللاعبين بين الطرفين
نصفهم بالعرب، أو من الممكن أن يكونوا من المستعربين، تآمروا علينا،
وأصبح الرصاص واضحًا بصوته وتأثيره، وضبابيًا بمصدره!
---------------------------------------------------------------
وتقول منى الشوا، الناشطة النسوية، معلقةً على كل
الوضع الحقوقي في ثلاثة منشورات مختلفة ما يلي:
"قطاع غزة تحول إلى سجن مغلق ترتكب فيه
جرائم إبادة جماعية"..."غزة أصبحت مكاناً للموت
واليأس"... شكراً لجنوب أفريقيا وفريقها القانوني
شكراً من قلوبنا التي أنهكها القهر والألم."
وفي هذا السياق، أود القول أن فحصًا للجينات
تم إجراؤه للشعب الفلسطيني، ووجدوا أن جيناته "ماندليّة" "جنوبية" "لا شرقيةً" "ولا غربيةً" بل "إفريقية.
وتكمل منى: "100 يوم يا غزة... 100 يوم ما طلع فيهم
نهار." وأنا أقول: 100 يوم ما طلع فيهم إنسان حر!
وتضيف: "سقطت الإنسانية، سقطت منظمات
حقوق الانسان، سقط القانون الدولي، سقطت المنظمات الدولية،
سقطت الأمم المتحدة وجميع هيئاتها، وسقطت كل شعارات الديمقراطية والعدالة
والمجتمعات الحرة.. كل هؤلاء سقطوا وبقيت غزة لتكشف زيفهم وكذبهم
وازدواجية معاييرهم... سحقاً لهم ولهذا العالم المتخاذل المتواطئ على ذبحنا
وإبادتنا.
وأقول يا منى: سحقاً لنا جميعاً، سحقاً لسكوت من سكت، وتخاذل من
صمت، وتعاون من تاجر بأرواحكم!
أما دينا أبو شهلة فتقول: "قف معي على الصفيح الساخن
ثم انشد الصمود.... وسأسمعك."
فلا تزاودوا على أهل غزة يا قاطني الفنادق، ويا شاربي القهوة
في مقاهيكم الفاخرة
وتضيف قائلةً بعد 3 أيام فقط من الحرب:
"لكل الأحباء والأصدقاء.. نحن بخير.. خرجنا
سالمين بعد تدمير منزل علينا والبيوت المجاورة لنا
شكراً على اتصالكم ومحبتكم... أعتذر لكل من اتصل
ولم أرد... محبتي..."
هل كنتم فعلاً بخير يا دينا؟ كيف استطعتِ كتابة هذه الكلمات اللطيفة لتشكري الناس، وتقولي إنك بخير! فأنا من لست في غزة، لم أكن بخيرٍ بعدما قرأت ما كتبتيه.
وتقول هديل أبو شعبان، وهي ترفق صورةً لركام بيتها: "تركنا البيت
على مضض بعد ما تلقينا خبر استهداف مكان قريب من موقع
سكننا. أصر زوجي على أخذ حقيبة اليد التي كنت قد حضرتها
على عجل واضعةً فيها جوازات السفر، وبعضاً من الأغراض
المهمة. لم أحزم بقية الأوراق الرسمية والثبوتية، أو حتى بقية
أغراضي الثمينة، ظنًا مني أننا سنعود. ظللت أقول لزوجي: مش
ضروري ناخذ اشي، 10 دقايق وراجعين"، ولم أكن أعلم أننا
سنغلق البيت للمرة الأخيرة. كل شيء انتهى، مُسح كأنه لم
يكن، جدران البيت، الصور المعلقة في زواياه، الغرفة، الشرفة،
المشهد الذي يطل عليه، الشجرة المزهرة المتسلقة على بابه،
مدخله الفسيح، الشارع، الأبنية المجاورة، كل المنطقة نسفت
عن بكرة أبيها، ركام وبقايا متناثرة هي فقط ما بقي.
صفر اليدين عدنا، لم يبقى لدينا سوى الصور المطبوعة في
الذاكرة! الحرقة تنهش الروح يا الله، لكن سلمنا بقضائك، عوضك، وعونك يا رب."
ونحن يا هديل، تم هدمنا، هدموا أحلامنا، وآمالنا، وهدموا شجاعتنا، وشخصيتنا، ولم يدعونا ننظر إلى الركام حتى، تحت ذريعة توقيع اتفاقيةٍ هنا، أو هناك.... والله المستعان!
وتضيف هديل واصفةً رحلتها إلى جنوب غزة: "وجومٌ طغى على
ملامحها الرقيقة، أمحت ابتسامتها المعتادة أمام فيض من الدموع كان
قد غلبها... دموع الخوف من مشهدٍ لم تألفه قبل.
اختفت الأشجار التي تزين جانبي الطريق، وحلت محلها دبابات
إسرائيلية ضخمة. مدافعها تثير الريبة والرعب. أما الجثث المتناثرة
التي رأتها خلال رحلتها، فهذه قصة أخرى.
مشت مسافة طويلة لم تشمها في حياتها... خالية الوفاض نزحت
من غزة، بلا حقائب أو أمتعة، ظلت تمشي محملة بمشاعر الخيبة،
حتى وصلت أخيرًا للجنوب"
ونحن نمشي يا هديل، لا نعلم أين وجهتنا... نمشي دون هدفٍ أو غاية..
نحن نمشي تطبيقًا للمثل الشعبي "سارحة والرب راعيها". رحلتك إلى
الجنوب، كانت لها وجهة، بالرغم من ألمها... رحلتنا، لا تعلم جنوبًا
ولا شمالاً... بل تتحدث عن طاولةٍ مستديرةٍ يجتمع فيها بعض
من الأشخاص... يرسمون لنا الرحلة... دون علمنا!
سمعنا قبلُ عن الرحالة العرب يصفون رحلاتهم، وعن الشعراء ينظمون قصائدهم، وعن الكتّاب يوثقون تجاربهم... واليوم أقدم لكم سيداتي وسادتي، نساءَ غزة واصفات مشاعرهن.... نساءٌ لم يكترثن كثيراً في وصف معاناتهنّ بنقص الطعام أو الغذاء، أو مساحيق التجميل، أو الملابس، أو مرطبات الشَعر، أو أي شيءٍ ماديٍ آخر! نساءٌ تحاملن على أنفسهن... كتبن كلماتٍ، صدّقوني، لو وضعتها أمام صخرةٍ، كتلك القابعة في البحر المتوسط، هناك في لبنان الجميل، والتي أسموها روشةً، لنطقت الصخرةُ وقالت: "اعذروني.... لا كلام بعد اليوم، غير كلامكن". نساءٌ دخلن التاريخ، نساءٌ أصبحن مصدر إلهامٍ لأجيالٍ وأجيال... غيّرن قواعد اللعبة، وأعدن تعريف الجمال، والكمال، والبهاء، والسناء.....في عُلاك..... في عُلاك!
أترككم هنا... مع قليلٍ من كلماتهن... وكثيرٍ من ألمي... قليلٍ من كلماتهن... وكثيرٍ من عجزي.... وكثيرٍ من يأسي... وكثيرٍ وكثيرٍ...
أحمد ياسين
ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.