"تَقَدُّمْ" أم تدهوُرٌ اجتماعي اقتصادي خطير في المجتمع العربي؟

أقرّت حكومة إسرائيل في العام 2021، القرار 550، المعروف باسم خطّة "تَقَدُّمْ"، وهي خطّة اقتصاديّة تهدف إلى تقليص الفجوات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المجتمع العربي بحلول عام 2026. إلّا أنّنا وبعد ثلاثة أعوام على اعتماد القرار، وفي ظلّ الحرب، نجِد أنفسنا اليوم، في آذار 2025، أمام تدهورٍ اجتماعي واقتصادي متسارعٍ في المجتمع العربي عمومًا، وفي صفوف النساء العربيّات على وجه الخصوص.

هذا التدهور الّذي نشهده ليس قَدَرًا محتومًا، بل هو نتاج سياسة ممنهَجَة تقوم على الإهمال وتجميد الميزانيّات والتطبيق الجزئي لقرارات حكوميّة اتُّخِذت بالأساس من أجل "تقليص الفَجوات". وما زاد الطين بلّة، هو ما شهده عام 2024 من تقليصات في ميزانيّات القرار 550 بنسبة 15%، إلى جانب تقليص أُفقي بنسبة 5% في ميزانيّات الوزارات الحكوميّة، تحت ذريعة الحرب وتمويل ميزانيّات ضخمة للجهات الحربيّة والأمن الإسرائيلي. تَعني هذه التقليصات في ميزانيّة 550، خسارة نحو 900 مليون شيكل سنويًّا على مدار ثلاثة أعوام (2024-2026).

إضافة إلى تقليص ميزانيّة القرار 550، قُلِّصَت أيضًا ميزانيّة القرار 549 بنسبة 15%، وهو القرار الّذي يُفتَرَض أن يسعى إلى تعزيز خطّة مكافحة آفّة الجريمة والعنف في المجتمع العربي بين السنوات 2022-2026. يُفاقم هذا التقليص المتزامِن في هذين القرارَيْن معًا، حالة التدهور العام الّتي يشهدها المجتمع العربي، لا سيّما أوضاع النساء العربيّات، ممّا يعكس تجاهلًا واضحًا للاحتياجات الملِحّة للمجتمع العربي عامّة، والنساء العربيّات خاصّة.

تَكفينا نظرة خاطفة على المعطيات لفهم خطورة الحال، ففي العام 2024 وحده، لقِي 239 شخصًا مصرعهم في المجتمع الفلسطيني في الداخل، وهذا ارتفاع مُقلِق جدًّا مقارنة بالسنوات السابقة. من بين الضحايا، هناك 22 امرأة، وهذا يشكّل ارتفاعًا بنسبة 37.5% مقارنة بالعام الماضي. تكشف هذه المعطيات الصادمة عن مدى تفاقم العنف المُستشري في مجتمعنا، وتُبرِز الفشل الذريع في التعامل مع هذه الظاهرة ومعالجتها، ممّا يجعل من حياة العديد من النساء كابوسًا يوميًّا لا ينتهي.

ليس الصّراع الحاصل على تخصيص الموارد بين القضايا الاجتماعيّة والأمنيّة الإسرائيلية بجديد. مع ذلك، فإنّ التقليصات في الميزانيّات الاجتماعية، لا سيّما تلك المخصَّصة للمجتمع العربي، والّتي تَهدف ضِمن تعريفها إلى "تقليص الفجوات"، تثير تساؤلات جدّيّة حول أولويّات الحكومة الحاليّة ونهجها في التعامل مع الفجوات القائمة. لا شكّ أنّ هذه الفجوات لم تنشأ بين ليلةٍ وضحاها، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات الإهمال والتهميش والإقصاء، الّتي استمرّت ولا تزال على مدار سنوات طويلة.

تشكّل التقليصات في خطّة "تَقَدُّمْ" ضربة قاسية للمجتمع الفلسطيني في الداخل، وتعمِّق الفجوات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بينه وبين المجتمع الإسرائيلي. يبرز هذا الضرر بشكل خاص في مجالات التعليم والصحّة والرفاه الاجتماعي، إلى جانب الارتفاع المتزايد في معدّلات الجريمة والعنف، ممّا يعكس تدهورًا اجتماعيًّا متسارِعًا. في ظلّ هذا الواقع، تُعتبر النساء العربيّات الفئة الأكثر مسًّا وتضرُّرًا، حيث يعانينَ من صعوبات اقتصاديّة وعدم مساواة وتمييز جندري، كما يواجهْنَ تحدّيات كبيرة في سوق العمل. رغم التطبيق الجزئي للخطّة الخمسيّة في المجتمع العربي، فقد سُجّل ارتفاع في نسبة تشغيل النساء العربيّات، من 27.5% عام 2011 إلى ما يقارب 45% بحلول نهاية عام 2023، وهي قفزة تُعدّ ركيزة مهمّة في تقليص الفجوات داخل المجتمع العربي نفسه، وكذلك بالمقارنة مع عموم السكّان في إسرائيل.

من الواضح أن الخطة الخماسية "تقدّم" فشلت في معالجة التحديات الجوهرية التي تواجه النساء، وخاصة العربيات، في سوق العمل والتعليم العالي. رَغم ارتفاع نسبة تشغيل النساء، فإن جودة التشغيل لا تَلتزم بالمعايير القانونية، سواء من حيث الأجور أو ظروف العمل. فحتى في السلطات المحلية، حيث سُجّل ارتفاع في تشغيل النساء، لا تزال هناك حالات تشغيل غير قانونية، مثل تعيين مستشارات للنهوض بمكانة المرأة دون منحهن الموارد الكافية أو حتى مقابلًا ماديًا، أو تشغيلهن بشكل تطوعي مع وظائف أخرى. وعندما يطالبن بحقوقهنّ، يتم رفض مطالبهن.

إضافة إلى ذلك، لم توفِّر الخطة أيّ آليات فعّالة لضمان حقوق النساء في العمل، حيث ما زالت الأجور منخفضة، وأحيانًا دون الحدّ الأدنى القانوني، في غياب رقابة حقيقية على ظروف التشغيل. كما أن العَقبات التي تُعيق وصول النساء إلى سوق العمل، مثل النّقل وغياب الدعم اللوجستي، لم تتم معالجتها.

في الجانب التعليمي، ركّزت الخُطة على دعم الشّباب العرب في الأكاديميا، لكنها تجاهلت نسبة التسرّب المرتفعة من التعليم العالي، ولم تراقب ظروف انخراط النساء في التخصّصات الأكاديمية أو نسبة إكمالهن الدراسةَ. نتيجة لذلك، نجد شابات عربيّات يتخرجن دون أن يجدن فرص عمل تلائم قدراتِهن في سوق عمل غير متقبّل لهويتهنّ.

تجعل هذه العوامل كلّها فترة بحث النساء العربيات عن عمل أطولَ بكثير مقارنة بنظيراتهن اليهوديات، مما يدفعهن إلى قبول وظائف لا تُلائم مؤهلاتهنّ أو بظروف عمل غير عادلة. تؤكّد هذه الفجوات الكبيرة في الخطة "تقدّم" الحاجة إلى إعادة النظر في سياسات التشغيل والتعليم، مع وضع آليات رقابيّة فعالة وضمان حقوق النساء في العمل والتعليم بشكل عادل ومنصف.

ما نقوله هنا يكتسب ضرورة خاصّة، نظرًا لأنّ تداعيات المساس بخطّة "تَقَدُّمْ" ستخلّف تداعيات أخرى فوريّة وبعيدة المدى على تشغيل النساء العربيّات. ويعود ذلك -من بين أمور أخرى- إلى الحدّ من الارتفاع في نسبة تشغيلهن، والمسّ بحقوقهن كعاملات، كنتيجة مباشرة من الحرب.

قدّمت خطّة "تَقَدُّمْ" رؤية للمساواة والتقدُّم، إلّا أنّه عمليًّا، وبحلول عام 2025، لم يُنفَّذ القرار بالكامل، كما أنّ التقليصات في الميزانيّات الاجتماعيّة زعزعت أركان الخطّة.

وأكثر من ذلك، فإنّ خطّة "تَقَدُّمْ" ليست سوى جزء من سلسلة قرارات "فُرِضت" على المجتمع العربي، والّتي تبدو ظاهريًّا لممثّلي الحكومة وكأنّها مناسبة وتُسهِم في تقدّمه، في حين أنّ الخطّة تعاني من نواقص جوهريّة، ولا تعكس بالضرورة الاحتياجات الحقيقيّة للمجتمع العربي، فضلًا عن أنّها يقينًا لا تلبّي احتياجات النساء العربيّات. والأنكى من ذلك، أنّه حتّى هذا القليل لم يُنفَّذ فعليًّا، وبطبيعة الحال لم يحقّق أيّ تقدّم، ولم يخدم الهدف المُصرَّح به، والّذي من المفروض أن تكتنفه الخطّة.

مع تصاعد جرائم القتل والتّدهور الاجتماعي والاقتصادي في عموم المجتمع العربي، لا سيّما بين النساء العربيّات، تبدو الرسالة الضمنيّة الّتي تُوجَّه للمجتمع العربي هي أنّهم غير مستحقّين للأمان ولا للمساواة، ولا حتّى "لِلتَّقَدُّمْ".

الخطوة المطلوبة الآن بشكل فوري وعاجل، هي إلغاء التّقليصات في الخطط والبرامج المخصَّصة للمجتمع العربي، إذ أنّ هذه التقليصات تفاقِم الوضع القائم، وتلحِق ضررًا مباشرًا بالنساء العربيّات، اللاتي هُن في أمسّ الحاجة للدعم والمساعدة. واجبنا كمجتمع أن نعمل معًا من أجل تخصيص عادل للموارد، بما في ذلك للنساء العربيّات. علاوة على ذلك، يجب إشراك النساء العربيّات بشكل فعّال في سيرورة بناء الخُطط والسياسات المتعلّقة بحياتهن، حيث أنّ مثل هذه المشاركة ضروريّة لفهم احتياجاتهن الخاصّة، وتوفير حُلول ناجعة. إلى جانب ذلك، فإنّ تذويت الفكر الجندري في كلّ خطّة وقرار ليس مجرّد مطلب عادل، بل هو أيضًا مصلحة مجتمعيّة عامّة، حيث أنّ المجتمع الّذي يكفل أمانَ النساء ويَدعم تطوّرهن وازدهارهن، هو مُجتمع أفضل لنا جميعًا.


كاتبات المقال نورا أشقر زهر وشهرزاد عودة هن محاميات في مركز ״تَذويت الفِكر الجندري״ في سلطات الحكم المحلّي، ضمن جمعيّة إيتاخ مَعَكِ – حقوقيّات من أجل العدالة الاجتماعيّة.

المحامية نورا أشقر زهر

محامية في مركز ״تَذويت الفِكر الجندري״ في سلطات الحكم المحلّي، ضمن جمعيّة إيتاخ مَعَكِ – حقوقيّات من أجل العدالة الاجتماعيّة.

رأيك يهمنا