لا للمنافسة، نعم للبحث عن ماهية الحياة بحريّة
كنتُ أقف في مطبخ البيت منهمكة بتنظيم الفوضى التي أحدثتها العائلة، حين جاءني أحد أبنائي من غرفته حائرّا، وقال: "يبدو انّني لن أتقدّم لامتحان دبلوم الرياضيات غدا. ماذا تقولين؟"
هذا السّؤال دفعني لحيرة كبيرة. فقد استنتجتُ من خلال تربيتي لهم وعملي كمربية، أنّ النّصائح لا تجدي نفعًا أبدًا. قرّرتُ في داخلي: عليّ استشارة مختصّ. طلبتُ من ابني مُهلة لنفكّر نحن الاثنين. دخل هو غرفته وهاتفتُ أنا أحد المختصين، وهو باحث متخصّص في مجالات علم النّفس الطّبي والتّربوي والنّمو. كان جوابه بمثابة فاتحة لنمط جديد في التربية بمثل هذه المواقف. قال:
"هو يحاول أن يُلقي مسؤولية اتخاذ القرار واسقاطاته عليك. إذا نصحتِه بالتقدّم للامتحان وفشل، انت المذنبة. وإذا تقدّم للامتحان ونجح، فذلك بسبب اجتهاده. عليه أن يتحمّل مسؤوليّة قراراته. كوني داعمة له في أي قرار يتّخذه ومع أي نتائج يحصل عليها. أخبريه أنّك بجانبه لأي مساعدة يحتاجها. أمامه عمرٌ كامل للبحث عن ذاته وتحقيق أهدافه التي يريدها هو".
كان لهذا الرّدّ تأثيرًا ساحرًا على ابني، وتأثيرا كبيرا عليّ أيضًا. ومنذ ذلك الوقت، زرت عيادة أحد المختصين مرتين على الأقل، واستعنتُ بإحدى المختصّات لفترة لا تقلّ عن شهرين في مرحلة أخرى.
تقول نوال السّعداوي في حواراتها الكثيرة حول الوالديّة وسلطة الأهل وبالأخصّ، السّلطة الأبويّة، أنّ الطّفل إذا لم يعش في أولّ وأهمّ دائرة في حياته- الأسرة- بجوّ من الصّدق والعدل والأمن والحريّة، فلن نحصل على أفراد سعداء ولا مجتمع سليم.
يحتاج الطّفل أن يتحاور مع أفراد اسرته بكلّ ما يشغل باله، دون الشّعور بالتّهديد من سلطة الاهل. انّ نموذج الأب الذي اجتمعتُ به قبل عدّة سنوات برفقة زوجته التي وافقت بكلّ ما جاء على لسانه، والذي ادّعى أنّ ابنته "تخاف" من المعلّمين ولهذا لا تتجاوب خلال العمليّة التّعليميّة، هو تماما نموذج للأب السّلطوي الذي لم يسمح لابنته ولا لزوجته بالتّعبير بحريّة بالبيت دون أن يشعرن بالتّهديد.
في العائلة التي يًملي فيها الأب أو الأم الأوامر على أطفالهم دون الاهتمام بما يفكّرون وما يشعرون وما يرغبون بالقيام به، سوف يترعرع أفراد مع شخصيّات مهزوزة فاقدة الثّقة بذاتها، أو منافقين يضطرّون للكذب والنّفاق أو نرجسيّين أو مندفعين، لا يتحمّلوا مسؤوليّة أفكارهم أو أعمالهم. هم غالبًا يحاولون تنفيذ الأوامر، فتقلّ دافعيّتهم في التعلّم وحتّى في ممارسة حياة نشِطة. من المهمّ متابعة منهجيّة العمل في مدرسة الأبناء، لكنّ الأطفال المحصّنون بحريّة التعبير واحترام أفكارهم واختلافهم عن العائلة، سوف يهتمّون بأنفسهم بانتزاع حقوقهم بجميع الدّوائر التي سوف ينتمون لها، ان كان ذلك بمرحلة الدّراسة أو العمل وحتّى على صعيد الدولة.
على عتبة المخبز، تقبّل أمٌ بكامل أناقتها ابنتها الجميلة بعد ان وضعت المنقوشة في حقيبتها، عدّة قبلات حارّة على الخدّ وتقول لها: حبيبتي ماما، انتبهي على المعلمة منيح منيح، بدنا ميّات ماما، صح؟ بس ميّات!" تهزّ البنت رأسها بالإيجاب!
يأخذني هذا المشهد الى صبيّتي، حين كانت بالمرحلة الابتدائية، وكيف انتزعتُ منها لفترة ما امكانيّة التعلّم من أجل البحث والمعرفة والسّعادة، لا من أجل التّنافس على لقب "أشطر بنت بالصّف". لم أجرؤ أن أطلب منها الكمال في علاماتها آنذاك كما تجرّأت هذه الأم مع ابنتها بوضوح، ربّما لأنّ النظريّة لديّ لم تكتمل حينها حدّ التّطبيق مع ابنتي.
ولأنّني مهتمّة بحق بتغيير تربويّ في المجتمع، وبعد أن خبرتُ الوالدية مع أبنائي الثّلاثة ومع آلاف الطلّاب وأهاليهم، وانكشفتُ على الكثير من الدّراسات التربويّة بطرق متنوّعة، أدعو اليوم كلّ من له علاقة في التربية، وبالأخص الوالدين: " لا لدعوة الأطفال للمنافسة، نعم للبحث عن ماهية الحياة بحريّة".
انّ أسوأ ما يمكن أن يتعرّض له الأطفال ويؤثّر سلبًا في نفوسهم، وغالبًا أيضا في تحصيلهم التّعليمي، ليس الانفصال أو الطّلاق الذي يحدث في الكثير من العائلات بين الأب والأم، وانّما سوء إدارة هذا الانفصال (أو الطّلاق) أو سوء إدارة أي علاقة بين أفراد العائلة. غالبًا ما تتراجع سلوكيّات وتحصيل الطلاب مع خلفيّة والدين منفصلين مثلا، لأنّ الزّوجين غير ناضجين كفاية لتحمّل مسؤولية هذا النّزاع. ويبدأ الاثنان بالاتّهامات لبعضهما، ويوضع الطّفل بوسط النّزاع حائرا يشعر بالضّياع، حيث تمّ قصف حاجته الغرائزيّة الأولى: "الشّعور بالأمان".
تقول نانسي هيل، وهي باحثة رائدة في مجال تربية الأطفال وإنجاز المراهقين في كلية الدراسات العليا للتعليم في جامعة هارفارد في كتابها "العائلات والمدرسة والمراهقون"، أن مشاركة الوالدين التي تعزّز فهم الطلاب لعواقب وأهداف أفعالهم دون المساس بإحساسهم المتنامي بالاستقلالية سيكون له الأثر الإيجابي الأقوى بنتائج الإنجاز، وأنّ المراهقين لا يريدون من والديهم أن يتفقدوا حقائب كتبهم أو يرافقوهم في الرحلات المدرسية، ولكن أن يتحدثوا معهم عن نقاط قوّتهم وإمكاناتهم وأهدافهم. حينها سوف يرون وجوههم تضيء.
وفي هذا السّياق، تقدّمت منّي احدى الأمّهات بطلب مساعدتها في محاولة لفهم ابنتها التي يشتكي منها معلّمو المدرسة بسبب اهمالها الملحوظ للمواد التّعليميّة، ومضايقتها لأختها الصّغرى في البيت. ابتسمتُ بوجه الأم وقلت: "هل تعلمين أنّ لابنتك موهبة خاصّة في الرّسم؟" بعد حديث طال نحو 40 دقيقة، استنتجتُ من حديثها أنّ ابنتها لا تريد مضايقة اختها الصّغرى، هي تريد فقط استعمال أدواتها للرسم والقصّ وما الى ذلك، لأنّ لديها حلم أن تصبح مصمّمة أزياء، لكن لوالدها حلم آخر مختلف.. أن تصبح محاميّة ماهرة.
يتخبّط الكثير من أهالي الطلّاب بخصوص عدم الدّافعيّة لدى أبنائهم، ويتساءلون عن الأسباب برغم "توفّر كلّ ما يحتاجه الطّفل" بغرفته. من حاسوب وآيفون وجميع الأجهزة الإلكترونية. تقول لي احدى الأمّهات:" لا أفهم ما سبب تراجع تحصيل ابني في المدرسة. ولا أفهم لماذا أصبح حسّاسًا ومندفعّا. الدّمعة بعينيه معظم الوقت. ما العمل؟"
طلبتُ أن تحضر الجلسة القادمة برفقة الأب بعد أن فهمت أنّ ابنها تقريبا لا يرى والده بسبب ساعات العمل الطّويلة، وأنّ الأب غير مقتنع أنّ لهذا الأمر تأثير أكيد على نفسيّة الابن. في نهاية العام الدّراسي، حضرت كلّ العائلة لتستلم الشّهادة. تقدّم منّي الأب وشكرني، فقد استبدل عمله بعمل آخر تنازل فيه عن آلاف قليلة من الشواكل مقابل أن يحظى بعلاقة ممتازة مع ابنه، وأنا التي أردتُ أن أشكره لاهتمامه بما تناولناه خلال الجلسة.
انهي مقالتي هذه بعبارة المهندسة المعمارية العالميّة زها حديد: "لا يقتصر التّعليم على الكتب، بل على مدى مراقبتك في الحياة لما يدور بالحياة. ولننجح بعملنا ونبدع، نحتاج الكثير من الثّقة التي نكتسبها من الوالدين، من خلال منحهما لنا الحبّ والعاطفة لنكون أقلّ ارتباكًا وأكثر انجازًا"