يا جبل البعيد خلفك حبايبنا
وها نحن أمام آذار، شهر المرأة والأم والربيع المزدهر المعطاء كعطاء المرأة على جميع المستويات. عندما توجهت الي الزميلات العزيزات القيّمات على المنصة بطلب الكتابة لنشرة "فارءه معاي" بمناسبة يوم المرأة العالمي، قررت الكتابة عن الواقع بعيدا عن النظريات الأكاديمية. لقد قررت الكتابة عن موضوع قلما تم التطرق اليه وهو النساء والأمهات المغتربات اللواتي، ولظروف مختلفة، يتواجدن خارج الوطن. لا أريد استعمال أي مرجعيات أكاديمية أو بحثية هنا، إنما مرجعيتي المتمثلة بتجربتي الشخصية وتجارب الكثير ممن أعرفهن شخصيا أو سمعت عنهن، حيث بدأ شريط حياتي منذ ما يقارب ستة عشر عاما يدور في مخيلتي، حين تزوجت وآثرت العيش مع شريك حياتي في بلدة بعيدة عن وطني، عائلتي، أصدقائي، زملاء العمل والنشاطات التي اعتدت عليها على جميع الصعد. رغم سفري المتواصل الذي كان قبل استقراري في أيرلندا بحكم العمل والأنشطة المختلفة، إلا أن "الاستقرار" جلب معه الكثير من سيرورات التأقلم والتخبط والحنين للأشياء الصغيرة، بالإضافة لضغوطات حياتية واقتصادية مختلفة خاصة وأنني في الوقت الذي كنت أدرس به لنيل شهادة الدكتوراة قمت بإنجاب طفلين وتربيتهما مع شريكي بدون أي مساعدة من أحد.
يتوجب على النساء في الغربة، سواء مع وجود شريك أو بدونه، أن يكن قويات ومتماسكات أمام تحديات الحياة الجديدة وظروف التأقلم فيها. أن يكن العائلة والوطن لأنفسهن قبل كل شيء ومن بعدها لأفراد عائلاتهن. يتوجب علينا الاتكال على أنفسنا في أوقات العسر واليسر. واليوم وبحكم التطور التكنولوجي الذي نعايشه فإن شبكات التواصل الاجتماعي سهلت، سرعت، ووفرت علينا وعلى أهالينا الكثير من العناء. فكل من مرت حديثا بتجربة الحمل والولادة، خاصة للمرة الأولى، تلجأ الى شبكات التواصل الاجتماعي، الذي يتيح التواصل السريع والمجاني مع الأم، الأخت، أو الصديقة للاستفادة من تجاربهن. أن تكوني وحدك مع آلام الحمل والولادة، وبعدها رعاية وتربية طفل بدون شبكات الدعم العائلي والمجتمعي ليس سهلا على الإطلاق، وأحيانا الملاذ الوحيد الذي نجده هو البكاء أو بسمة طفلنا. وعندما تقرر العائلة المغتربة إنجاب طفل آخر فهذا أشبه ب"قرض إسكان" من حيث المصاريف المترتبة على ذلك من دفع نفقات الحضانات ورعاية الأطفال وغيره من الامور المرتبطة لا سيما في الحالات المرضية أو العطلات المدرسية.
أمور حياتية عديدة ومختلفة تدفعك للتساؤل "لو كنت في البلد كان الوضع غير؟!" مثل المرض، والشدة، والعمل، والمشاكل الزوجية وغيرها من الأمور التي تجعل المرأة تلتزم الصمت أو التقوقع تجنبا لاتخاذ قرار حاسم. وبحكم عيشي وعملي في أيرلندا، فأنا على اطلاع على الكثير من الحالات التي يستغل فيها الزوج "فيزا العمل" الخاصة بها كآلة لقمع وإذلال الزوجة المتعلقة به في تواجدها ببلده بشكل قانوني، إذ إن هنالك أنواعا مختلفة من تأشيرات الإقامة في أيرلندا، منها ما يسمح للمرافق\ة بالعمل ومنها ما لا يسمح بذلك. وهنا تكون حالة الزوجة سيئة جدا، إذا إنها تكون مضطرة على الصمت وسماع الإهانة لضمان بقائها في البلد. هذا النوع من تأشيرات الإقامة يتم تجديده في الغالب كل ثلاث سنوات. رغم محاولات مراكز دعم النساء المعنفات لنشر معلومات عن إمكانيات كسر حواجز الصمت والقمع التي تتعرض له هؤلاء النساء، إلا أنه توجد صعوبة كبيرة جدا بالتواصل معهن أو إشراكهن في ندوات أو فعاليات مختلفة، علما أن هناك مكاتب رفاة اجتماعي ومواقع حكومية مختلفة تنشط في هذا المجال وتوفر نشرات توعوية بلغات مختلفة.
تجدر الاشارة الى أن استعمال اللغة الانجليزية، ولو جزئيا، مهم جدا لتسهيل الإقامة والحياة اليومية في أيرلندا، وهذا طبعا يتطلب مخالطة الناس والتحدث معهم، والبعض يشبه هذه الحالة بحالة "الدجاجة والبيضة" بمعنى ما الذي يجدر ان يسبق ماذا لتطبيق الأمر.
بحكم معرفتي بالشعب الأيرلندي، وهو شعب مرحاب ومتقبل للآخر، فإني أنصح المغتربين بشكل عام، والمغتربات بشكل خاص، بكسر حاجز الخجل والبدء بالمخالطة ولو بالكلمات الإنجليزية المعروفة لهم، وفي حال وقوع خطأ لغوي ما، فعادة ما يقوم الأيرلنديون بتصحيح الخطأ وتوضيح الصيغة الصحيحة بطريقة داعمة ولبقة. إن استخدام لغة البلد الذي تعيش به المغتربة مهم جدا، وإتقانها لها فيما بعد، يتم من خلال كسر عدة حواجز وبناء الثقة بالنفس وبتطوير قدرات التكيف في الغربة. وفي ظل حالات اللجوء وطالبي الحماية لعشرات الآلاف من الشعوب العربية وغير العربية إلى أوروبا والعالم، الذين كما هو معلوم ليسوا من أصحاب الشهادات الأكاديمية في غالبيتهم وعادة ما يتقنون لغة بلدهم أو البلد المستعمر لبلدهم، لا بد لهم من تعلم اللغة المحلية. وفي هذا السياق، أود الاشارة الى أن أيرلندا توفر دورات لغة انجليزية مجانية للمهاجرين سواء كانوا لاجئين أم مهاجري عمل في ساعات مريحة وكذلك بطريقة التعلم عن بعد، غير أن اللافت في الامر ان غالبية الملتحقين بهذه الدورات هم من الرجال وليسوا من النساء، الامر الذي يطرح، باعتقادي، العديد من التساؤلات والإشارات الحمراء.
في الختام، وبمناسبة شهر المرأة والأم، أرسل اليكن أعطر الأمنيات ومعها عبارات الفخر والاعتزاز بالنساء والأمهات عامة، والمغتربات خاصة اللواتي كسرن حواجز عديدة في بلدهن الثاني، أو الثالث، لتصبح لديهن حياة شخصية ومهنية نابضة، حيث أن بناء حياة مهنية وأكاديمية لائقة في الغربة، تتطلب شبكات اجتماعية واسعة وجلد ومثابرة. تحياتي لجميع النساء والأمهات الصامدات اللواتي يسعين بلا كلل أوا ملل لاثبات أنفسهن وتطوير ذواتهن، برغم غياب دوائر الدعم الاجتماعي والعائلي والاقتصادي.
د. رلى (حامد) أبو زيد – أونيل
ناشطة اجتماعية ومحاضرة مختصة بمجال النساء، الأقليات، الصراع، الذاكرة والصدمة في جامعة كورك-ايرلندا.