ما بين الإنجازات والتحديات: ماذا يعني أن تكوني محاضرة-باحثة فلسطينية في جامعة إسرائيلية؟
أن تكوني محاضرة وباحثة فلسطينية في آن واحد في جامعة إسرائيلية يعني أنك واحدة من مجموع نساء بالكاد يصل عددهن الثلاثين في جميع الجامعات الإسرائيلية معا، تحديدًا، عدد المحاضرات-الباحثات في جامعة تل أبيب هو خمس، في الجامعة العبرية سبع، في جامعة بار إيلان ثلاث، في جامعة حيفا سبع، وفي جامعة بئر السبع ست. أمّا في معاهد العلوم التقنية، هناك باحثة فلسطينية واحدة التي انضمت إلى طاقم التخنيون في العام المنصرم مُضيفةً إلى تاريخه التمثيل النسائي العربي الأول في مسار طاقم المحاضرين الكبار؛ في حين يغيِّب معهد وايزمان النساء الفلسطينيات كليا من طاقمه الأكاديمي. هل يعكس هذا التمثيل الضئيل للأكاديميات الفلسطينيات في الجامعات الإسرائيلية الطاقات الموجودة في المجتمع النسائي الفلسطيني القادرات على الإنتاج المعرفي المطلوب للالتحاق بطواقم المحاضرين والمحاضرات الثابتين (وأعني بلغة الأكاديميا الإسرائيلية סגל בכיר)؟ الإجابة القاطعة هي: بالطبع لا. الطاقات والقدرات موجودة، ولكن الدروب الأكاديمية مشبعة بالمنظومة التي اختبرتها شخصيًا كتعجيزية للنساء. ولذلك، أود التوضيح منذ البداية أنه في حديثي عن الأكاديميات الفلسطينيات في الجامعات الإسرائيلية لا أتعمد إقصاء أو استثناء الأكاديميات العاملات والفاعلات في الكليات أو المؤسسات الأكاديمية الأخرى، وإنما أرغب بتسليط الضوء على التحديات والفرص التي تواجهها النساء الفلسطينيات في مسارهن إلى ما يسمى ب "الوظيفة الثابتة" tenure track position أو بالعبرية תקן في جامعة إسرائيلية. هذا التسليط، يأتي بالأساس لكون الجامعات تركز في عملها على البحث العلمي والنشر الأكاديمي أكثر من الكليات. ما أرغب بطرحه في هذه السطور المبنية على تجربتي الشخصية كأكاديمية في جامعة إسرائيلية هو أولا، طرح الموضوع وعرضه للنقاش، والتفكير في حيثياته وسُبل العمل لتطويره؛ وثانيا، رفع الستار عن بعض التفاصيل غير المتداولة ولكنها في غاية الأهمية لكل أكاديمية فلسطينية لديها طموح بالعمل في البحث الأكاديمي والتدريس في الجامعات عامة، والجامعات الإسرائيلية خاصة ضمن طاقم وهيئة تدريسية ثابتة.
أكثر ما أذكر هو مفاجأة والدتي ومن حولي بعد حصولي على درجة الدكتوراة بمقولة "شو بعدك بتدرسي؟ ما أنتِ أنهيتِ؟". لا تنتهي التحديات في الطريق إلى إتمام رسالة الدكتوراة وما تحمله من تحديات معرفية. تخوض النساء تحديات متعددة في الطريق للوظيفة الجامعية وهي المرحلة التي تبدأ ما بعد الدكتوراة والتي هي مرحلة حاسمة ومصيرية. بدايةً، حتى أن تنظر الجامعات في ملف أي أكاديمية لبحث إمكانية ضمها إلى طاقم الباحثين الكبير، يجب أن تتوفر شروط (معلنة وغير معلنة) من نشر للأبحاث في مجلات علمية محكمة وكذلك استكمال دراسات ما بعد الدكتوراة في إحدى الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة أو أوروبا. وثانيا بمنحة دراسية من أحد صناديق الدعم المرموقة والتي بغالبيتها الساحقة صناديق ممولة من جهات (خيريّة) أوروبية، أمريكية أو يهودية ويتنافس على حصولها المئات من الحاصلين/ات على شهادة الدكتوراة سنويًا. للتنافس والحصول على مكانة يجب على المرشحة تقديم اقتراحات لأبحاث مستقبلية وفق معايير أكاديمية صارمة بالإضافة إلى الحصول على رسائل توصية من باحثين/ات مرموقين/ات وتحضير وثائق أخرى قد يتطلب تحضيرها والملف كاملا شهورا وأحيانا يمكن أن يصل إلى عام. وإذا حالفها الحظ ونال ملفها استحسان لجان التحكيم التي تختار وتقرر لمن يتم إعطاء المنحة تأتي المعضلة الكبيرة وهي إمكانية السفر لسنة دراسية أو أكثر. أذكر جيدًا كيف ظهرت إمكانية السفر في حياتي مصحوبة بتحديات ومسؤوليات اجتماعية وعائلية مختلفة، منها التفكير بالفرص والضرر الذي ستتعرض له العائلة والشريك في حال قررنا كعائلة السفر، سواء أكان ذلك ضررا ماديا أم معنويا. تأتي هذه التحديات أيضا بأشكال أخرى مع الباحثات غير المرتبطات بشركاء، إذ تجتمع مع فرص السفر والتعلم، تحديات الاستقلال المادي ومواجهة منظومات اجتماعية تحبط من شغف التعلم والتنقل الأكاديميين.
التحدي الكبير الآخر، هو ما أسميه بـ "الصمود الأكاديمي" في الجامعة لكل من وصل إلى الوظيفة "المرغوبة". الجامعة تعمل كمنظومة اقتصادية، التي يجري بها التقدم في الدرجات المهنية على أساس قياس درجة الإنتاج المعرفي بأدوات "مادية" تتعلق بعدد المقالات التي تنشرها الباحثة في السنة وكيف تُدرَج المجلة العلمية المحكمة التي نُشر بها البحث. كذلك، تطلب الجامعات من باحثيها الحصول على منح مالية لدعم أبحاثهم/ن والتي في حال تم الحصول عليها تدخل في "حساب" الباحث/ة في خزينة الجامعة. من الجدير بالذكر أن صناديق البحث التي تنظر إليها الجامعات بعين الرضا هي تلك التنافسية مثل المؤسسة الإسرائيلية للعلوم הקרן הלאומית למדע، والتقديم لهذه الصناديق يتم وفق معايير أكاديمية صارمة ويتطلب التحضير لها شهورًا عديدة. المشاركة وعرض الأبحاث في مؤتمرات عالمية هو أيضًا معيار مهم للتقدم بالدرجات المهنية، والقبول لهذه المؤتمرات هو الآخر مشروط بتقديم مقترحات أبحاث التي تخضع كالمقالات للتحكيم المهني وفق معايير أكاديمية دقيقة. على الرغم من ذلك، تستطيع بنظري الأكاديمية الفلسطينية التوفيق ما بين واجباتها كمحاضرة وباحثة في الجامعة، ودورها كأم وزوجة وابنة وأخت وصديقة عن طريق تقوية مفهوم الشراكة الزوجية والعائلية، وتدريب مستمر في تخطيط الوقت واستثماره بطريقة ناجعة.
هو ذلك الشعور "باليُتم" الأكاديمي الذي عشته في سنوات دراساتي العديدة الذي دفعني لكتابة هذه السطور. حيث افتقرت إلى إطار يكون "منّا وفينا" قادرا على استيعاب ما نمر به كنساء أكاديميات، وبالتالي توجيهنا ونوع من "مسك إيدنا" في مسيرتنا الأكاديمية. أما اليوم وكوني اخترت المضي في هذه الرحلة التي قد تبدو شاقة ولكنها في آنٍ واحد مثيرة ومهمة، أدرك أهمية أن نبعث الأمل لدى الأكاديميات الشابات بأن لا شيء مستحيل. تفكيك الاستحالة يتطلب تخطيطا دقيقا للمسار وتكريسا للوقت والمجهود بطريقة حكيمة وناجعة. منذ أن بدأت دراساتي العليا وأنا أذكر نفسي في حالة تنقل مستمرة بين الأدوار العديدة والتوقعات الضاغطة أحيانًا من المجتمع الفلسطيني تجاهنا كنساء. إذ أن الخطاب الأبوي فيه لا يزال ينظر أولا إلى أدوار المرأة مهما تقدمت مهنيا، كأم، زوجة، ابنة، ومدبرة أساسية في المنزل؛ وثانيًا، كمؤثرة وقيادية. أما ثالثا، فإن الخطاب الاستعماري يجذر هذه الأبوية لينظر للمرأة على أنها هشة ومهمشة. هناك حاجة إذن لتحويل الأنظار إلينا كنساء قويات يتصدرن المشهد لأن الصوت والوجود النسائي في الجامعات ضروري وحيوي لتوطين الإنتاج المعرفي. لتحقيق هذا المنال علينا بناء شبكات اجتماعية وأكاديمية داعمة، من خلالها نُدرك تحدياتنا كنساء فلسطينيات وفي الوقت ذاته ندفع بكل قوة للوصول لمواقع التأثير في الجامعات. لا ننسى أن وجودنا هناك يمنح الطالبات والطلاب الفلسطينيين الشعور بالوطن والأمان والقوة.
د. مزنة عويّد-بشارة
باحثة ومحاضرة في قسم التربية للتعددية اللغوية في قسم التربية في جامعة تل ابيب