جلد التمساح
صباح أزرق صافٍ، تطل من أفقه شمس مشرقة تتناغم جدايلها مع أمواج البحر الهائجة. تستيقظ هي، مفعمة بالطاقات، صفحة التعب طُوِيَت تستهل بيوم جديد.
تنتعش بحمام بارد، تقفز كالزنبرك من غرفة إلى أخرى لتقوم بقدر المستطاع من الواجبات العائلية والبيتية. بيدها فنجان قهوة قد برد، وبيدها الأخرى هاتفها الذكي، تتفقد من خلاله برنامج يومها من جلسات، ومهام وترتيبات. ترتدي سروالا أنيقا أوف-وايت، و"بلوزة" صفراء وعقد لوليا وتنتعل كعبا منخفضا مريحا.
تتجه نحو الباب، هناك مرآة طويلة، تتهندس من خلالها. تطلي وجهها بلون طبيعي مزهر، ترطب شفاهها بطبقة لامعة، جاهزة للانطلاق.
تبتسم للمرآة، تتخذ نفسا عميقا وتردد لذاتها: هيّا بنا!
لحظة! تتذكر، فتسحب من خيالها جلد التمساح، ترتديه، تتأنق، وتستقوي به.
جلد التمساح؛ طبقة مجازية ترتديها النساء فكريا، منهجيا، نفسيا، وعقليا، تتردد بها نحو عملها، أو عمليا لأي مكان. تستخدمها لمواجهة التحديات بثقة، التصرف بذكاء، التأرجح باتزان على حبل الكمال والنقصان، والتحلي بحنجرة رقيقة وصدى رنان.
وظيفتان وامرأة
واضح كشباك زجاجي للتو تلمّع، للمرأة وظيفتان عليها الثبات فيهما وبينهما ومن أجلهما على أكمل وجه: بيتها الخاص؛ إن كانت أما، متزوجة أم عزباء ومكان عملها؛ المنصة التي تغذي عبرها رحلتها المهنية. يشحنها جلد التمساح بطاقة جوفية لا متناهية تفوح صمودا واجتهادا. يمكّنها من تقسيم وقتها بنجاعة مبهرة، الرقص في جميع الحلبات بقدرة قادر، ولملمة ذاتها عند المنحدرات، لتصعد بعدها القمم بقوة.
امتلاك المهنة؛ هاجس وفرصة
لو كان الشعور بالركاز والطمأنينة قد تحقق مع استهلال فرصة العمل الأولى، لَكُنَّا نتحدث الآن عن شؤون السفر والملذات.
يُنسب هذا للب الفروقات ما بين الوظيفة والمهنة. فالمرأة كما الرجل لا تمتلك وظيفتها. الأخيرة عبارة عن ساعات زمنية تُقدّمها مقابل أجر مادي. لها إطار وحدود، تكونت تلبية لاحتياجات الشركة، تكون على شكل مهام، تدعم أهدافها، عادة آنية، ودائما على عجل. أحيانا تتقاطع هذه مع أهداف المرأة المهنية البعيدة، وأحيانا أخرى لا صلة لها؛ ما يتطلب منها دوام الصعود من أعماق هذه المهام، والتحليق عاليا كطائرة مروحية تكشف عما يحدث خارجا: اتجاهات المجال الذي يعنيها والعوامل الخارجية وتأثيرها عليه، متطلبات سوق العمل والفرص غير التقليدية. بناءا على ذلك، عليها رسم خطة تتحضر بها ذهنيا وعمليا. فالسؤال الذي يراود كل امرأة "أي مستقبل مهني أريد؟" هذا السؤال النوستالجي منذ الصغر له أبعاد أكبر وأثقل مع الجيل. يستدعي جهودا خاصة إضافية، وإرادة عالية، خاصة من المرأة لكثرة انشغالها وتوقعات المجتمع المعاكسة منها.
كل هذا يتطلب منها الفصل الدائم ما بين ضرورة الوظيفة الآنية، وبين واجبها تجاه مهنتها التي تمتلكها، ومواكبتها للمستقبل وسط الضجيج. أحيانا كثيرة يتطلب منها ايضا ارتداء جلد التمساح للتحرر من منطقة الراحة، والتقدم نحو التغيير. يأتي التغيير على أشكال عدة منها التقدم لمنصب أعلى، وأجر وشروط أفضل، أو الانفتاح على مجال آخر. وهذا يحتاج للتحلي بالصبر، بالإضافة إلى إتقان فن مهارة التفاوض، وميزات الفضول والجرأة المثابرة.
مساواة جندرية؛ سيف ذو حدين
المساواة الجندرية ليست نقطة للنقاش، فهي حق ، يتحول تدريجيا الى واقع، وهذا قيد الاستمرار.
فنرى أكثر فأكثر وجوها نسائية في مناصب متقدمة؛ تدير مشروعا، منتجا، فريق عمل أو شركة. وهذا تغيير جذري لامع كالسيف الحاد. فللمرأة أسلوب آخر تتحلى به. فهي تؤمن بقوة التواضع والرأي المختلف، وتأتي باستراتيجيات خلاقة، وتشغف بتغذية قراراتها بمجمع الآراء المختلفة، والمعلومات والحقائق، وترى المساحة تتسع للجميع. بطبيعتها، تفضل الامتناع عن الغرور. لكنها تحتاج أشد الحاجة لجلد التمساح؛ لثبات ثقتها بنفسها، للمواجهة الذكية، والتعامل بمهنية وصوابية سياسية مع الحد الآخر من السيف: كالزملاء المغرورين، والقادة في برجهم العاجيّ، أصوات ذكورية صماء، وتحديات بيضاء اللون. فمن جلد التمساح تظهر ابتسامة لاسعة، صوت خامل ودعابة قارصة. وإن لزم الأمر، حرب باردة لحقوقها، حدود مرسومة بخط أحمر عريض تذكيرا لا أكثر بجدارتها، وكفاءاتها وكيانها.
عولمة عمياء وحواجز
من بيت حنون دافئ، ومجتمع من سماته العطاء، والقرب الاجتماعي والتشابه المجتمعي، تجد المرأة العربية نفسها في مكاتب ببنايات مرموقة لشركات عالمية، تتحدث من خلف شاشتها مع زملاء من كل حدب وصوب.
إنها العولمة، وانفتاح الدول والحضارات على بعضها بعضا، تبوح بكلماتها الطنانة عن أهمية الشمول والتنوع في مكان العمل. تسير بها قدما، ولكنها لا زالت عرجاء. عمياء هي لمواصفات وبيئة الأقليات. تهتم بها حين وتنشغل عنها أحيان. فتجد المرأة العربية الفلسطينية ذاتها في وظيفتين، إحداها التي أقدمت عليها مهنيا، وأخرى تحيطها بعناق يكاد يخنق. يتوجب عليها أن تتحدث عن ذاتها، حضارتها، إيمانها، دينها، جذورها، حسبها ونسبها، أكلها وشربها، لبسها وثقافتها. فهذه العولمة العمياء تحتاج جلد تمساح لتلقى عبارات بلهاء ومزاحا عنصريا أبكم، وأسئلة جاهلة، وشرحا وتفصيلا، كل مرة من جديد. نفس طويل وابتسامة.
دمعة، هرمونات وفقاعة
جلد التمساح ناجع في معظم الأحيان، ولكن هناك مواقف تسيل دمعة، أو حتى شهيق بكاء. وهنالك فترات زمنية بها تنتصر العواطف وتهيج المشاعر ويكل الصبر، فينسحب جلد التمساح؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: العادة الشهرية وهرموناتها المتقلبة التي لا تُحسد عليها المرأة. وأخرى كالظروف الشخصية والعائلية التي تتصدر الأولوية دون استئذان. مشاعر نفسية متغيرة كالخوف من فوات الشيء (فومو) وهبّة من لحظات من متلازمة المحتال (Imposter Syndrome) بها تشك المرأة بإنجازاتها ويحل عليها خوف داخلي عن أن يعتبرها الآخرين "محتالة". وأخيرا الإرهاق المجتمعي الذي تهرب منه إلى فقاعتها حيث الأماكن والأشخاص تشبهها.
لحظات هي استراحة، تستقوي بها، تعيد شحن وهندسة جلد التمساح لترتديه عن جديد صباح غد، بعد أن نفضت الغبار عنها، ومسحت عرق جبينها وانتصبت شامخة.
قائدة ناضجة قوية
جلد التمساح ليس وصفة سحرية بل هو طبقات تبنيها المرأة خلية بجانب الأخرى، أساسها المبدأ، تربطها قوة التجارب المهنية والشخصية. تزيدها سماكة وصلابة مشاركات من زميلاتها ذوات خلفيات شبيهة ونماذج عُليا سارت على درب مثيل. فدور المرأة العربية في صقل مسيرتها المهنية لا يقتصر على التعلم والمضمون، بل على شخصيتها، ومهاراتها الرقيقة، ونضوجها، وكيفية تعاملها وتأقلمها مع بيئتها: بيئة مجتمعها وبيئة عملها، فكلتاهما لا تزال في مرحلة التحويل، ولم تعتد بعد على وجود المرأة بعيدة عن بيتها؛ تقصّر أحيانا بواجباتها المجتمعية اللانهائية، تسرح وتمرح في أزقة بنايات هايتيكية، تشغل مناصب مرموقة بجدارة، وتجلس شريكة للنقاش واتخاذ القرارات. فهي هنا لتبقى، ويبقى سلاحها جلد التمساح وفقاعة من نساء تشبهها، لتتحول الى المجتمع بأكمله يوما ما."فإن عقل المرأة إن ذبل ومات، ذبل عقل الأمة كلها ومات،" توفيق الحكيم.
شكر خاص لجميع الصديقات والزميلات على المساهمة بمشاركات من تجارب شخصية، وآراء تشكلت عن مشاهد حقيقية غذّت بشكل جميل الفكرة والمضمون.
كل عام وأنتن القدوة والدليل لنساء المستقبل.
د. حنان خميس
مهندسة مختصة في مجال الهندسة الطبية، مديرة منتج في شركة Siemens Healthineers الألمانية، ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSc.