شرعنة معرفة النساء الفلسطينيات القرويات

ونحن نراجع منجزات المرأة بمناسبة يوم المرأة العالمي، يهمني أن أشير إلى دور المعرفة النسوية، خاصة التشاركية والمتوارثة بين الأجيال، كأداة لضمان سبل العيش في المجتمع القروي قبل النكبة. ففي بحثي حول الدور الاقتصادي للمرأة الفلسطينية القروية في الجليلين الغربي والأعلى، في فلسطين الانتدابية بينت بأن المعرفة التي تأتي من الناس العاديين، مثل معرفتهم المهنية والزراعية والجغرافية وأشكال ودرجات الخبرة المختلفة، لها قيمة علمية ويمكن أن تكون مفيدة في استيعاب التفاعل والتقاطع بين النوع الاجتماعي (الجندر) والتاريخ الاجتماعي والاستعمار. وما أدعيه يقف بمواجهة الادعاء السائد بتوجهات معينة في الفكر النسوي بأن المستويات المتقدمة من الحياة الحضرية تعزز الوعي لدى النساء وتمنحهن السيطرة على ذواتهن وتنشطهن سياسيا واجتماعيا، بعكس ما يحدث مع النساء الريفيات. مع ذلك، فأنا لا أنتقص من ذلك الادعاء، بل أوَسع الكوة التي نطل من خلالها على تطور المرأة فكريا، واجتماعيا وسياسيا؛ لألقي الضوء على حيوية المجتمع النسائي الريفي، وتطوره وتميزه الخاص، وأهمية دور النساء به اقتصاديا، وهذا من خلال قصص العمل والتجارب التي ترويها النساء العاملات في القرية، لا سيما الفلاحات. 

ومثل هذه القصص تلك التي روتها الحاجة المرحومة سعدة الكوري سويطي، (88 عاما) من مواليد قرية الرمل، قرب حيفا، ومن ثم من سكان قرية جعتون والتي انتقلت مع عائلتها إلى أبو سنان بعد النكبة وتشريد سكان جعتون وجاراتها مثل عمقة وكويكات والغابسية. على الرغم من أنه ينظر إلى النساء الريفيات الفلسطينيات عموما على أنهن أميات، وبأنه لم يكن لهن أي تأثير على حيواتهن أو بأن سيطرتهن على مجريات أمورهن كان ضئيلا، وبالتالي فقد كنَ غير مؤهلات بما يكفي للانخراط في سوق العمل الحديث، إلا أن الشهادات الشفوية الصادرة عنهن أو تلك التي قدمها الرواة الذكور، كأبنائهن وأزواجهن، فهي تؤكد حقيقة انخراطهم الفعلي والمثابر في العمل بظروف الاستعمار الأوروبي والاستعمار الصهيوني الاستيطاني. وقد اعتمدت النساء اللواتي تنقلن يوميا من القرية إلى حيفا بهدف بيع الخضروات والنباتات العطرية ومنتجات الحليب على المعرفة التشاركية للحيز الحضري للمدينة الفلسطينية، فتعرفن على شوارعها ومناطقها المختلفة وحفظن هذه التفاصيل بذاكرتهن الجماعية وتناقلنها من جيلٍ إلى جيلٍ، بل وبنت هذه المجموعة علاقات اقتصادية-اجتماعية مع "زبائنهن" من أهل حيفا فحفظن أسماء العائلات الحيفاوية وعناوين بيوتهن وهذا لعشرات السنين. فكيف نجحنَ في كل هذا؟  

الشهادة الشفوية التي جمعتها من المرحومة الحاجة سعدة الكوري سويطي في وصفها لتجربتها في العمل خلال فترة الانتداب البريطاني تضيء لنا على الإجابة: "كانت نساء الرمل ينتظرن بعضهن البعض في الصباح قبل أن يتوجهن إلى حيفا لبيع منتجات الألبان أو الخضروات. في بعض الأحيان، في البلدة، كنت أرافق عمتي، التي كانت تملك قطيعا من الماعز تأخذها للرعي في الضواحي وعلى الجبل. كانت تعرف العديد من العائلات في حيفا. كانوا يشترون الحليب والزبادي منها. هكذا عرفتهم وبدأت في بيعهم أيضا. وفي لمح البصر، تعلمت كيفية الانتقال من محطة الحافلات في وسط مدينة حيفا إلى وادي النسناس أو إلى الطريق الجبلي، حيث أحضرت اللبن واللبنة للعائلات التي نعرفها منذ سنوات". 

 تميز إذن عمل النساء الريفيات في المدينة بتشارك المعرفة كنوع من العلاقات الاجتماعية بين المهاجرين من القرويين الفلسطينيين الذين لجأوا الى حيفا بحثا عن الرزق، قبل النكبة، كما ظهر ذلك بأبحاث محمود يزبك ومصطفى كبها ونعماه بن زئيف، الذين اعتمدوا على بعضهم البعض للعثور على وظائف ومنازل للإيجار والتجول في المدينة لأهداف بيع فائض المنتجات الحقلية والبيتية. هذه المعرفة التي نقلتها النساء من جيل إلى آخر ضمنت بقاء مجتمع القرية وساعدت في تنميته الاقتصادية، بل وعزز الوضع الاقتصادي للمرأة ذاتها وطور شخصيتها، سواء أكانت حاملة للمعرفة أم متلقية لها.  

زرعت نساء قرية الرمل البدوية، كما روت الحاجة سعدة، ضفاف نهر النعامين بالمزروعات التي احتاجت للكثير من الماء كالخس والنعنع والبقدونس واللوبياء وغيرها، واعتمدن على أنفسهن بكل مراحل الزرع والعناية بالنبات حتى مرحلة قطف ما يمكن بيعه بأسواق حيفا. ونقلت سعدة وأخواتها وقريباتها ما زرعن على رؤوسهن إلى حيفا، إما مشيا على الأقدام وإما بركوب الباص الذي كان يمر أحيانا قرب القرية. 

ومن رواية الحاجة سعدة تعلمتُ بأن المعرفة التشاركية التي ميزت المجتمع الفلسطيني القروي، ليس فقط في الزراعة، فتحت لهم فرص عمل، كما هو الحال في العديد من المزارع التجريبية التي أسستها سلطات الانتداب البريطاني، حيث كانت هناك حاجة ماسة إلى مهارات النساء والرجال الزراعية، وفعلا عمل عدد لا بأس به في تلك المزارع التجريبية مثل محطة الدابويا في منشية عكا، والفرادية قرب الرامة وغيرها، كما يظهر الأمر في نشرات الانتداب المختلفة وفي تقاريره السنوية. 

هنا أشير الى دور التاريخ الشفوي الذي يعتمد على المعرفة المستمدة من الناس العاديين كمصدر إثراء لمعرفتنا حول مجالات تم حجبها عن الوعي، كدور الفلاحات القرويات التي لم يوثق عملهن لكونه جزءاً من العمل الجماعي لأجل ضمان لقمة العيش. ومن خلال هذا التاريخ نستشف بأن النساء، على الرغم من ظروف الحياة تحت الاستعمار، كن جزءا نابضا، لا يُستغنى عنه، من حياة القرية.  

لنتذكر، بيوم المرأة العالمي كل هؤلاء النساء، بما فيهن البنات الصغار والصبايا كسعدة وخديجة وعليا وقريباتهن،  والتي غفلت كثير من الأبحاث التاريخية الهامة ذكر أدوارهن. 


الصورة: للحاجة المرحومة سعدة الكوري سويطي من تصوير إبنها الصحفي حسن سويطي.

د. روضة مرقس- مخول

باحثة في علم الاجتماع الاقتصادي- التاريخي والدراسات الفلسطينية القروية (Palestinian rural studies)

شاركونا رأيكن.م