أَسرى المَجهول - "نَحنُ لا نَخافُ المَوت، نَحنُ نَعيشُه"!

في سُفوح الكرمل وضواحي القدس وصحراء النّقب، وما بينها، وخَلْف أبواب معدنيّة ثقيلة وجُدران رماديّة باردة، يقبع أكثر مِن 11 ألف أسير فلسطيني، وأكثر من 3,000 معتقل من قطاع غزة، يواجِهون يوميًا انتهاكات صارخة تحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. يُمارس ضدهم كلّ ما تحمله كلمة "تعذيب" من مَعنى: تعذيب نفسي، وجسدي، وحتى جنسي. تَنهش الأمراض أجسادهم الهشّة، ويعانون من الإهمال الطبيّ، والعَزل الانفرادي، والقهر، والوحدة.

مع نهاية كلّ زيارة لأسير أو معتقل، وبعد سَماع الإفادات والشّهادات، أَجِد نَفسي عاجزة عن استيعاب ما سمعتُه. أَترُك المكان وسَيلٌ من التساؤلات يراودني، وأهمها: كيف؟ كيف يمكن لمخلوق بشري أن يرتكب كلّ تلك الأفعال الساديّة والوحشيّة بحقّ إنسان آخر—إنسان مكبّل الأيدي والأرجل، مغمى العينين، هشّ، جائع، أَعزَل، ومحروم من أيّ تواصل مع العالم الخارجي؟ والسؤال الثاني: كيف يَستطيع الإنسان احتمال كلّ هذا؟

اتّضح أن الإجابة عن "كيف" الأولى أبسط ممّا تخيّلت، إنها العقلية الاستعمارية، التي ترى في التّنكيل والتجريد من الإنسانية أداةَ سيطرة. فعقلية المحتلّ لا تنظر إلى الفلسطيني كإنسان له حقوق وأحلام وعائلة وقَلب ينبض، بل تراه مجرّد رقم، وتهديد يجب مَحوُه، أو وسيلة لتحقيق هيمنةِ منظومةٍ ساديّة مستبدّة تتغذّى على العنصرية، وتجد لنفسها تبريرات زائفة تَجعل من الوحشيّة سياسة ممنهجة، ومن الألم أداة لإخضاع الشعوب. تقوم هذه العقليّة على مبدأ أساسيّ: لا بقاء للهيمنة دون إذلال ممنهَج، ولا استقرار دون قَمع مستمر. لذا، يصبح التعذيب وسيلة يوميّة وروتينية، لترسيخ رسالة واضحة: أَنّ يَدَ المحتل هي العليا، وأن ثمن النضال والسعي للحريّة والكرامة هو فقدان روحك وجسدك.

أما عن "كيف" الثانية، فتكمن الإجابة في أنّ الفلسطيني، أينما وُجِد، يمثّل عزيمة لا تنكسر. ليست معركته مجرّد نضال لتذكير العالم بالإنسانية والحق في الحياة والحرّية والكرامة، بل هي صراع على البقاء. كلّ محاولات كَسر إرادته لا تُضاهي شوقَه للصلاة في القدس، أو الإحساس بِمَوج بحر حيفا، أو حتى شُرب الشّاي في بيته المدمّر في غزة.

جدران غرف الزيارات في السجون ومعسكرات الجيش شاهدة على مآسٍ لها بداية لكن نهايتها مجهولة المصير. في إحدى الزيارات، قال لي أحد المعتقَلين من غزة: "نحن لا نخاف الموت، نحن نعيش الموت ذاته". وآخر قال: "هم يريدونني محمولًا بالكفن عندما أخرج من هنا، لكنني سأخرج. ربما على كرسيّ متحرّك، لكنني سأخرج وأحضن ابنتي الصغيرة، المعجزة". أما ثالثهم فقال: "من قلّة الأكل، قرّر الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة، وجميع من يمكث معي في القسم، أنه عندما نتحرّر، سنصبح جميعًا طهاة! كلّ واحد منّا يتفاخر أمام رفيقه في الخيمة بمن سَيُعد الحلوى بشكل أفضل عند العودة إلى بيته."

أما أسير قضى 20 عامًا في السجون الإسرائيلية، ثم أعيد اعتقاله بعد أقل من نصف عام من تحرّره، مع اندلاع حرب الإبادة، فقد قال لي: "العشرون عامًا التي قضيتها في السجن لا تساوي يومًا واحدًا مما نعيشه الآن."

ورغم القمع والتعذيب الممنهج، لا يُسمح للأسرى والمعتقلين بمشاطرة معاناتهم مع بعضهم البعض، سواء كانت نفسية، أو جسدية، أو صحية، إذ تَفرض إدارة السجون أوامر صارمة تُلزمهم بالجلوس في وضعية ثابتة-على مؤخرتهم، ورُكَبُهم قريبة من أجسادهم، ورؤوسهم منحنية للأسفل بين الركبتين والصدر، وأعينهم مُغمَضة، وأيديهم وأرجلهم مكبّلة-من الساعة السادسة صباحًا حتى العاشرة مساءً على الأقل، دون السماح لهم بالحركة أو التّحدث مع مَن بجوارهم. كلّ من يجرؤ على كسر هذا الأمر يعاقب بالضرب المُبرح والإهانات هو وباقي المعتقلين. يهدف هذا التعذيب الوحشي إلى فكفكة الترابط بين الأسرى، وإجبار كلّ أسير على مواجهة معاناته وحده، ومنعِه مِن تحويل تجربته الفرديّة إلى قضيّة ذات بعد جمعي.

أما في سجن الدامون، على سفوح جبال الكرمل، حيث تقبع الأسيرات الفلسطينيات، فهنّ يرزحن تحت وطأة قمع ممنهَج، ويواجهن أبشع أشكال التّنكيل والتّرهيب، في محاولة يائسة لانتزاع إرادتهن وكسر عزيمتهن.يُحرمن من أبسط مقومات الحياة، فلا مستلزمات للنظافة الشخصية، ولا فَراشي شعر، ولا ملابس تقيهن قسوة البرد، ولا حتى بطانيّات أو أسرّة للنوم. يُقدَّم لهن طعام شحيح ورديء لا يصلح للاستهلاك الآدمي، ويخضعن يوميًا للإهانات والتهديدات ذات الطابع الجنسيّ، وسط تفتيشات مذلّة وإجراءات عقابيّة تهدف إلى تحطيمهن نفسيًا وجسديًا. وإمعانًا في العزل والقهر، يُحرمن من رؤية عائلاتهن، ويُتركن فريسة للسجّان خلف جدران معتمة تَخنق الهواء والأمل. ومع ذلك، تواجه الأسيرات الظُلم بصمود يُربك جلاديهن، كأنهن يعلنّ أنّ الكرامة لا تُسلب، وأن الإرادة، مهما أَثقَلَها القَيد، تبقى عصيّة على الانكسار. إحدى الأسيرات المحرّرات قالت لي: "عندما حان وقت إطلاق سراحي، قُلت لسجّاني، ورأسي شامخ: اليوم أَخرجُ من السّجن، لكنّك ستبقى هنا، سَجينًا في دور السجّان."

لقد مارسَت السلطات الإسرائيلية كلّ ما هو غير شرعي ومناقض لكلّ الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية. فسياسة القمع والانتقام بحقّ الأسرى والمعتقلين، بغض النظر عن جنسهم، أو أعمارهم، أو أوضاعهم الصحيّة، ليست سوى تعبير عن هشاشة المنظومة، وجنونٍ لا يمكن للعقل استيعابه.

وعلى الرغم من جَمال المواقع التي أُقيمت فيها السجون-سفوح الكرمل، وضواحي القدس، وصحراء النقب، وما بينها - ففي داخلها، أكثر مِن 11 ألف فلسطيني يُعانون بِصَمت، ويَحلمون بالحريّة والتّحرير.

المحامية سجا مشرقي برانسي

محامية ومدافعة عن حقوق الإنسان ومختصة بمكافحة قضايا التعذيب

رأيك يهمنا