القُوّة البُيولوجِيّة.. وَرَقَة النّساء الرّابِحة في الحُروب!

تُعتبر الحُروب واحدة من أبرز المحطّات التي شكّلت مَسار التاريخ البشري عَبر العُصور، ورغم ذلك، فإن دَور النساء في هذه الحروب غالبًا ما يُغفل أو يُقلل من شأنه مقارنةً بدَور الرّجال. ومع ذلك، نَجد أن النساء كان لهنّ دَور جوهري في الدفاع عن المجتمع وحماية الأُسرة، بل كان دَورهن أساسيًا في الحفاظ على النظام الاجتماعي والإنساني خلال أوقات الحرب والمَخاطر. في هذا المَقال، سنتناول دَور النساء في الحروب، بدءًا من العصور القديمة، مرورًا بمساهماتهن في حماية الأسرة، وصولًا إلى الاختلافات الفيزيولوجيّة والبيولوجيّة بين دِماغ المرأة والرجل، وتأثير ذلك على استجابات كّل منهما خلال الحروب.

دَور النساء في العصور القَديمة

تُركز مُعظم الصوَر الذهنيّة التي نملكها عن الإنسان القديم في عصور ما قَبل التاريخ على الرجال كمحاربين وقادة، على بطولاتهم في حماية العائلة والمحافَظَة على نَسل البشريّة. وتقتَصر صورة المرأة في هذه الصوَر على دَور جانبيّ، حيث نراها في الكهف، تُطعم الأطفال وتَهتم بهم. لكنّ الحياة في تلك الحقبة كانت قاسِية، مليئة بالمَخاطر اليوميّة التي تهدّد حياة الإنسان، مِن الحيوانات المفترِسة إلى قلّة المَوارد وتغيّرات المناخ. لذلك لا بدّ أن كان للمرأة دور دفاعيّ مُهم في مواجهة هذه المخاطر، خصوصًا عند غياب الرجُل (للصيد أو للقتال)، ولو كان الأمر بخلاف ذلك، فكان النّسل البَشَري قد انتهى بعد عدّة افتراسات ومخاطر.

نظريّة العِناية والمسانَدة (Tend and Befriend)

قبل عام 1995، لم يُدْرَس دور المرأة في المَخاطر وتحت الضّغوطات بشكلٍ كافٍ، حيث كانت الأبحاث تقتصر على الرجال فقط وتَستَثني الإناث. لكن بعد ذلك، أَدرَك الباحثون ضرورة وأهميّة دراسة دَور النساء في مواجهة المَخاطر والضّغوطات.
وَجَد الباحثون أن المرأة تبنّت استراتيجية تطوريّة تُسمى "نظريّة العناية والمُساندة" لمواجهة التّهديدات البيئية، مثل الهَجَمات والحروب، وهي نَهج مختلف عن نظريّة "القتال أو الهروب" (fight or flight) التي تُعتبر أكثر شيوعًا لدى الرجال. في هذا السياق، تَبِعَت النساء استراتيجيّتين رئيسَتين:

1.    العِناية ((Tending: رعاية ومساندة أطفالهن أو الأشخاص المحيطين بِهِنّ، مثل العائلة أو الأصدقاء، في أوقات التوتّر والخَطَر. يُعتبر هذا السلوك آلية للبقاء على قَيد الحَياة، حيث يُساعِد على حماية الأَفراد الضعفاء وضمان استمراريّة الأُسرة.

2.    التعاون ((Befriending: تتضمّن هذه الاستراتيجية بناء علاقات اجتماعية مع الآخرين لخلق شبكات دَعم. تميلُ النساء في هذه الحالات إلى التعاون مع أفراد آخرين من الجِنس نفسه، مما يساعد في تعزيز الروابط الاجتماعية وحماية المجموعة في الأوقات الصّعبة.

الاختلافات البيولوجية بين دِماغ المرأة والرجل وتأثيرها في الحرب

على الرّغم من أن المخاطر الخارجيّة تحفّز المنظومة الدماغية السمباتية (sympathetic nervous system) والمحور الوطائي-النخامي-الكظري (hypothalamic-pituitary-adrenal (HPA) axis) وهما المَساران الرئيسان في استجابة الدماغ للمَخاطر والضّغط في كلا الجنسين، فإن هناك اختلافات كبيرة في الاستجابة البيولوجية بين دماغ المرأة ودماغ الرجل.

عند مواجهة المخاطر، يُفرز دماغ الرجل هرمون التستوستيرون الذي يعزّز ردّة فِعل هجومية وعدائية، مما يجعله يَميل إلى سُلوك "القتال". أما في دِماغ المرأة، فيتم إفراز كميات أقل من التستوستيرون وأكثر من هرمون الأوكسيتوسين، المعروف بـ"هرمون الحُبّ"، الذي يُحفّز على العِناية والاتّصال الاجتماعي. يُفرز الدماغ هرمون الأوكسيتوسين بكميات كبيرة عند الولادة والرّضاعة وعند الاتصال الاجتماعي. فيرتَبِط هذا الهرمون بالعِناية والأمومة. فعند المخاطر، يُفرِز الدّماغ هرمون الحُبّ لتتمكن المرأة من المسانَدة والاحتواء وتهدئة الأطفال والأشخاص المحيطين بها.
بالإضافة لذلك، يساعد هرمون الأوكسيتوسين على تهدئة المنظومة العصبية السمبتاوية والمحور HPA، مما يؤدي إلى تهدئة النّشاط القلبي، وتعزيز استرخاء العضلات، وزيادة كفاءة عملية الهضم. هذا يجعل المرأة أكثر قدرة على التعامل بهدوء وتركيز في أوقات المخاطر، ويُساعدها على المساندة، بل وعلى بناء الروابط الاجتماعية وحماية الأفراد المحيطين بها،
فيرتبط الدعم الاجتماعي والانتماء بتخفيف الضّغط والتأثيرات السلبية الناتجة عن أي تهديد خارجي. 

دَور النّساء في الحُروب المُعاصِرة

على مرّ العصور، كان للنساء دور حيويّ في الحروب والمخاطر التي مرّت بها المجتمعات الإنسانية. ورغم أن التاريخ غالبًا ما يركّز على البطولات العسكريّة للرجال، فإن النساء كان لهنّ تأثير كبير في تشكيل مجريات الحروب وصناعة السلام والحفاظ على المجتمعات خلال الأوقات العَصيبة. من الحروب القديمة إلى النزاعات الحديثة، أثبتت النساء مُرونة وشجاعة هائلة، واختبرت أدوارًا متنوعة تتراوح بين حماية الأسرة، والرّعاية الصحية، وصولًا إلى بناء المجتمعات.

في الحروب الحديثة، أصبَحت المرأة جزءًا لا يتجزأ من جهود الإغاثة والصحة العامة، حيث تساهم في رعاية الجرحى والمصابين، بل وتشارك في عمليات التفتيش والبحث عن الأسرى. كما أن العَديد من النساء خُضن ميادين القتال في الجيوش الحديثة وأَثبَتن قدرات استثنائية في القيادة والتكتيك العسكري. ورغم ذلك، تَبقى حقيقة أن النساء يواصلن أداء أدوارهن في خلفيّة الحرب، حيث يتعامَلن مع تبِعاتها في الحياة اليومية، من تربية الأطفال إلى إعادة بناء المجتمع بعد دمار الحرب.

فصحيح ما يُقال أن "الأِم بِتْلِمّ"، لكنها لا "تَلِمْ" فقط أفراد عائلتها على طاولة الطّعام لتناول وجبة ساخنة، وإنما "تَلِمُّ" حطام المدينة، "تَلِمّ" مشاعرنا المحطّمة بعد الحروب والمخاطر، تعزّز فينا القوّة والإرادة، تَلِمُ وتَلْحِم كلًّا من أطفالها، ورجالها ونسائها، لتحيّك رباطًا اجتماعيًا قويًّا مِن جديد قائمًا على الانتماء والعزيمة، ليقف أمام أيّ مستعمر ومحتلّ يتوهّم بأن قوته العسكرية من الممكن أن تنتصر على طبيعة وغريزة قوة المرأة.


الصورة: للمصوّر - الصحفي بلال خالد.

د. تالا خازن

مختصة في علم الدماغ، وباحثة في تأثير العَوامل الخارجيّة على تطوّر الدّماغ في فترة الطفولة.

رأيك يهمنا