ثقافة الاستهلاك وتغذية العنف

نبدأ برسالة "انا معلمة مدرسة ابتدائية، وأم لطفلين في سن بين 3 و5 سنوات. أريد أن أبدأ مشروعًا تجاريًا، لإجبار (علي) على تعلم لغة جديدة وشراء جميع الكتب التي كنت أرغب في قراءتها. ينهي ابني، سري، درسًا للكاراتيه ولديه فصل محادثة باللغة الإنجليزية. وتتعلم ابنتي حنين العزف على البيانو والآخر يتعلم كالعزف على الكمان. دفعت الكثير من المال لكليهما وكلاهما يفوتان معظم اللقاءات في الدورة. تحتاج سيارتي إلى الكثير من الإصلاحات، لازم (عليّ) بيعها وشراء واحدة جديدة بدلاً من ذلك. اضطر (كلمة لازم بالعربية) لتجديد حديقة المنزل، والسفر إلى الخارج. حاولت أنا وزوجي ترتيب شؤوننا المالية، وضعنا أهدافًا، كل شيء كان مثاليًا في عملية تحديد الأهداف، ولكن خلال التنفيذ، لا شيء يعمل بالنسبة لنا! ماذا علينا أن نفعل؟".

وجهت المستمعة رسالتها هذه إلى الخبيرة في الاقتصاد الأسري ناردين أرملي، ضمن البرنامج الإذاعي "بالمختص المفيد" الذي تم بثه على إذاعة "الناس" مع منى العمري. هذه الإذاعة تبث باللغة العربية من الناصرة، أكبر مدينة عربية في إسرائيل. رد أرملي يكشف لنا أن مثل هذه الرسائل تمثل حالة عامة تتعلق باقتصاد الأسرة الفلسطينية داخل إسرائيل، من باقة الغربية إلى حيفا وشفاعمرو والناصرة وأم الفحم والطيبة، من الشمال إلى الجنوب. وبشكل أدق تعكس أسئلة سلمى ورسالتها الثقافة الاستهلاكية في المجتمع العربي، بجملة: "كثير من الناس ينفقون الأموال التي لا يملكونها لشراء أشياء لا يحتاجونها، للتفاخر أمام الناس الذين لا يحبونهم!". 

الواقع الاقتصادي في مجتمعنا متأثر، أولاً وقبل أي شيء آخر، بسياسات الدولة تجاه مجتمعنا. في كانون الأول/ ديسمبر 2015، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن الخطة الخمسية للمجتمع العربي، رقم 922، والتي عكست محاولة الحكومة الإسرائيلية لخلق تنمية اقتصادية في المجتمع العربي. استندت الخطة إلى هدفين شاملين: التنمية الاقتصادية بين السكان العرب ودمجهم في الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين. واحدة من أهم تبعات الخطة هي تطور ثقافة الاستهلاك في المجتمع العربي. هنا سوف أحاول وصف ملامح هذه الثقافة في الواقع الحياتي اليومي للفلسطينيين في المثلث، في جنوب البلاد وشمالها.

الثقافة الاستهلاكية وتأثيراتها على المجتمع العربي الفلسطيني هي حقيقة لا يمكن تجاهلها، كما لا يمكن تجاهل النقد الاجتماعي تجاهها. أبو جاد، معلم مخضرم في إحدى مدارسنا الصامدة على ركام قيم عائمة، رجل خمسيني ذو الكثير من الخبرة الحياتية، يصف في حديثه "التنافر" في "توطين" ثقافة الاستهلاك في بلادنا، بين أهلنا وناسنا. ينتقد "عمي جمال" السلوك الفردي والتغيير الجذري الحاصل والمتمثل في "المظاهر"، وهي كلمة تصاحب ثقافة الاستهلاك في الميدان وتشير إلى الممارسة الاجتماعية المتمثلة في التباهي، كجزء من التفاعل الاجتماعي في ظل ثقافة الاستهلاك.

يتعرض السلوك الأسري والشخصي في سياق الثقافة الاستهلاكية إلى الكثير من النقد الاجتماعي في مجال الاستهلاك الذي يُنظر إليه على أنه مخالف للمنطق الثقافي المحلي. الإشارة إلى نوع من التناقض بين ماضي البساطة الفلاحي، والقرب من الأرض والبيت، والأرض كمركز الحياة التي تنمو حولها الأسرة والعلاقات داخلها، وبين العصر الآني للثقافة الاستهلاكية وإيقاع الحياة السريع بعيدًا عن الأرض والعائلة. لا يوجد هنا شخص واحد يتصرف وفقًا للمثل العربي "ع قد فراشك مد رجليك"، بل نعيش جميعنا حالة من الضغط الاجتماعي والاقتصادي، نفعل أشياء تفوق قدراتنا ونقارن بعضنا ببعض. 

هذا التقليد وهذه المقارنات تعبر عن "ثقافة فقر"، كما يصفها السيد أبو جاد. ظهر مصطلح "ثقافة الفقر" لأول مرة في كتاب الإثنوغرافيا لأوسكار لويس وهو عالم إنسان أمريكي. يدعي لويس من خلال المصطلح رغم أن أعباء الفقر كانت منهجية وفُرضت على هؤلاء الأفراد في المجتمع، إلا أنها أدت إلى تكوين ثقافة فرعية مستقلة حيث تم دمج الأطفال اجتماعيًا في سلوكيات ومواقف أدت إلى استمرار عجزهم عن الهروب من الطبقة الدنيا. بعض مما ورد في كتابه "الناس في ثقافة الفقر لديهم شعور قوي بالهامشية، والعجز، والتبعية، وعدم الانتماء. إنهم مثل الأجانب في بلدهم، مقتنعون بأن المؤسسات القائمة لا تخدم مصالحهم واحتياجاتهم. جنبا إلى جنب يرافق كل هذا, شعور بالعجز, شعور واسع النطاق بالدونية، وعدم الجدارة الشخصية".

هل من الممكن لهذا المصطلح الأكاديمي ان يلامس السيارات الجديدة، الكبيرة وبتلمع، بيوت ومنازل من مئات الأمتار ونفقات لا تنتهي. هذه، وغيرها الكثير من مظاهر الاستهلاك، تغذي واقعاً اقتصادياً ركيزته الأساسية هي القروض، سواء من البنوك أو من شركات الإقراض، أو حتى من "السوق السوداء". قروض بشكل مباشر أو غير مباشر "تبتلع" وقتك، أموالك ومما نراه في السنين الاخيرة - قد "تبتلع" حياتك كلها. 

"عِش يومك كما لو كنت ستموت غدًا" - هذا ما يمكن قوله في وصف حالنا اليوم في ظل ثقافة الاستهلاك. مثل عربي يشير بشكل أساسي إلى حالة عدم اليقين التي يعاني منها العرب في السياق الاقتصادي الاجتماعي والوجودي. وضع يؤدي إلى شيوع حالات لأشخاص دمروا عائلاتهم بسبب قروض من السوق السوداء، بل تعرضوا حتى للقتل. نتيجة الانتشار المؤلم لهذه الحالات، تحولنا جميعاً، كمجتمع وكجماعة، إلى أشلاء حرفياً ومجتمعياً، تحولنا من "بلد" إلى "شلة ناس مجموعين".

شهاب إدريس

طالب دكتوراة في علم الإنسان. تتركز اهتماماته البحثيّة في المجتمع الفلسطينيّ في أراضي الـ 48، وخاصّة النيوليبراليّة وثقافة الاستهلاك في ظل النظام الإسرائيليّ

نبال عوده
موضوع مهم جدا جدا
الخميس 1 حزيران 2023
نبال عوده
موضوع مهم جدا وهو سبب رئيسي لمشاكل مجتعنا وأحد الاسباب الرئيسيه لتفكك مجتمعنا .
الخميس 1 حزيران 2023
أبو فلان
رائع، لا فضّ فوك
الخميس 1 حزيران 2023
لبنى حامد
اختيار موفق وعالوجع واقع مُرْ نعيشه 😔بالنجاح عزيزي شهاب🙏
الأحد 4 حزيران 2023
رأيك يهمنا