الطريق القصيرة إلى قلوب أطفالنا
هل نعرف أولادنا وبناتنا، حقاً؟ لا أبالغ إن شاركتكم وقع الصدمة التي فاجأتني عندما صارحني ابني آدم (وكان حينها في الثامنة من عمره) بافتقاده الشخصية التي تشعره بالأمان. كان هذا ردّه عندما سألته حين قرأت له قبل النوم إحدى قصص هاري بوتر، إن كانت هنالك شخصية تُشعره بالأمان، كما هو مدير المدرسة بالنسبة لهاري بوتر. أيّ ردّ هذا الذي يمكن أن تسمعه أمّ تظنّ أنها تقوم بكل ما أوتيت لتوفير الطمأنينة وسبل العيش لأولادها! لست أدري من أين استجمعت قواي حينها وسألته: في أي حالات كنت تتمنى وجود شخصية كهذه؟ بكى حينها بمرارة، وهو الولد المنطوي، ليشاركني بأنّه يواجه تنمّرًا من بعض زملائه في الصفّ ولمدة طويلة جدًّا دون وجود من يحميه. من هذا الولد؟ سألت نفسي، كيف يعيش كل هذا الوضع وأنا لا أعرف مع أني أسأله يوميًا كيف كان يومه في المدرسة؟ بعد محاولات مختلفة لحلّ المشكلة، قررت نقله إلى مدرسة أخرى وضمان تمكينه عاطفياً لمواجهة حالات مشابهة.
مضت ستة أعوام على ذلك، وقد صار آدم فتى يافعًا وواثقًا بنفسه، وأتساءل أحيانًا ماذا لو لم أسأله هذا السؤال آنذاك؟ ماذا لو لم أحاول اتباع إحدى توصيات مشروع "مكتبة الفانوس"، حول أهمية ربط القصة بخبرة من حياة الأطفال خلال القراءة معهم؟ كنت أريد أن أعتقد أنّي محظوظة جدًّا لأني عرفت صدفةً ما يواجهه ابني، ولكن الواقع أنّ الطريق إلى قلوب ونفوس وعقول أولادنا وبناتنا هي أقصر وأبسط بكثير ممّا قد نتخيّل ولا علاقة لها، لا بالحظّ ولا بالصدفة.
يشعر الكثير منّا بالتقصير في تنشئة أولادنا وبناتنا، وهو شعور طبيعي ولا جديد فيه، ولكن الجديد أن نمط الحياة الذي نعيشه تغيّر بشكل كبير ونوعيّ لدرجة أنّنا بتنا بالفعل بعيدين جدًّا عنهم. الأسباب لذلك عديدة وقد يكون أول ما يخطر في بالنا هو استحواذ الشاشات على جلّ وقت فراغنا، كبارًا وصغارًا، لدرجة أن الواحد منّا صار يبدو كمن أنبت عضوًا جديدًا في جسده هو جهاز الهاتف؛ ويأتي السعي وراء لقمة العيش وغلاء المعيشة لِيَلتهم القسط الأوفر من حياتنا، خاصة في ظلّ معدلات الفقر التي تطال حوالي نصف المجتمع العربي. لقد قتل نمط حياتنا وقتنا، وهذا ليس تعبيرًا مجازيًّا.
هذا واقع مألوف في أماكن مختلفة من العالم، لكن تحدّي الوالديّة عندنا أصبح مسألة وجوديّة لا أقلّ، نظرًا لتفشي ظاهرة الجريمة المنظّمة والعنف. فقدان الشعور بالأمان، والقلق على سلامة أولادنا وبناتنا، والإحساس بالعجز إزاء ما يحدث في البيئة المحيطة، قد خلقت جميعها حالة توتّر وإحساس بعدم اليقين حيال ما قد يأتي به الغد. ليس من السهل تربية الأبناء والبنات في هكذا ظروف. ولكن، هناك بصيص أمل، وربما أكثر من ذلك.
كثرت مؤخّرًا الأبحاث العلميّة، المحليّة والعالميّة، التي تثبت وجود علاقة مباشرة، بل فوريّة، بين قراءة القصة للطفل والحوار معه حولها من سنّ مبكرة، وبين تطوّر الطفل فمن مختلف النواحي النفسيّة، العاطفيّة، اللغويّة، الذهنيّة والاجتماعيّة، وحتى الأخلاقيّة، المرتبطة بقضايا الخير والشرّ. تمكّن الطفل من هذه المهارات الأساسيّة يجعل منه إنسانًا صالحًا ويتيح له التقدّم في تحصيله العلميّ ويشكّل رافعة له للخروج من دائرة الفقر.
قراءة كتاب جيّد، وليس أي كتاب، والحوار مع الطفل حوله، حتى لو اقتصر ذلك على عشر دقائق يوميًّا، سواء قبل النوم أو في أيّ وقت آخر مريح للأهل ولطفلهم، هو وقت ثمين جدًّا يتيح لقاءً حميميًّا يُحفَر في الأذهان والوعي ويخلق أساسًا لعلاقة قائمة على الإصغاء والحوار، لمدى الحياة.
القراءة وحدها لن تصنع السحر، بل القراءة المشارِكة، أي تلك التي ترى الطفل وتصغي لما عنده ليقوله ويسأله ويشارك به، سواء حول أحداث القصة ومشاعر شخصياتها وأفكارها ونواياها، أو بمشاركة مواقف مشابهة مرّ بها وتتيح مجالاً لحوار أعمق. هذا الوقت الحميميّ هو أيضًا فرصة للأهل ليشاركوا أطفالهم بمشاعرهم وبمواقف عاشوها في طفولتهم أو حاضرهم لها علاقة بالقصّة.
كأيّ تغيير، لن يحدث هذا التغيير أيضًا مرةً واحدة، بل هو يحتاج إلى مثابرة وأحيانًا إلى توجيه وإرشاد. وهنا تأتي المساهمة المميزة لمشروع "مكتبة الفانوس" الخيريّ، الذي يهدي مليون نسخة سنويًّا من أجمل وأجوَد كتب الأطفال إلى نحو 180 ألف طفل وطفلة في سن 3-8 سنوات ويصل إلى كلّ بيت في مجتمعنا العربي. الكتب منتقاة بعناية ومهنيّة ومحبّة من قبل لجان اختيار الكتب المختصّة التي تركّزها الأخصائيّة في الطفولة المبكرة ومحرّرة الكتب، منى سروجي، وفي آخر صفحتين من كلّ كتاب هناك اقتراحات لأنشطة حواريّة وأخرى فنيّة ممتعة يمكن للأهل القيام بها مع أطفالهم.
ولا نكتفي في "مكتبة الفانوس" بتوزيع الكتب، بل نقوم بإشراف من المديرة التربوية للمشروع، الدكتورة أريج مصاروة، بإرشاد وتوجيه الطواقم التربويّة في رياض الأطفال وصفوف الأول والثاني حول أهمية القراءة المشارِكة. كما نعمل على تعزيز دور الأهل، من خلال تدريب طواقم جماهيرية في بعض المراكز الجماهيرية وعيادات الأم والطفل. ونقوم حاليًّا بمشروع جماهيري تجريبي في بلدة حورة في النقب، بالتعاون مع السلطة المحلية، بهدف تكثيف وتوثيق العلاقة بين الأطر التربوية والجماهيرية وبين الأهل، وذلك بعد أن تبيّن للجهات المسؤولة أن أيّ تغيير في التحصيلات العلمية (نتائج الاستطلاع الأخير لمركز الأبحاث "راما" دلّت على أن 82% من تلاميذ صفوف الرابع العرب لا يجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية)، يجب أن يبدأ بالاستثمار في الطفولة المبكرة.
هذا المشروع الذي مضى على تأسيسه عشر سنوات، بادر إليه كلّ من "صندوق غرنسبون" و"صندوق برايس الخيري" بالتعاون والتمويل المشترك من وزارة التربية والتعليم. وهو يضع في متناول يد كلّ منا كتبًا جيّدة، بل ممتازة، ممتعة بأحداثها وغنيّة بكلماتها ورسوماتها فائقة النوعيّة، تطوّر الذائقة الجمالية لدى أطفالنا وتعزّز محبّتهم للغتهم العربية وتوسّع خيالهم ومداركهم، كتبًا مرتبطة بحياة الأطفال ومشاعرهم وتحدياتهم، وتتيح لذلك مجالًا واسعًا للحوار معهم والتعرّف عليهم والتقرّب منهم. اجلسوا معهم واقرؤوا معهم ولهم وأعطوا أنفسكم وإيّاهم عشر دقائق يوميًّ، وسترون سحرًا أقوى حتّى من سحر هاري بوتر.
أسماء اغبارية - زحالقة
مديرة "مكتبة الفانوس" وتعمل في المشروع منذ ست سنوات. نشطت قبل ذلك على مدار 19 عامًا في ميدان العمل النقابي والسياسي والاجتماعي. هي أمّ لآدم وياسمين، وهي من مواليد يافا وتعيش حاليًّا في حيفا. تحمل لقب البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة تل أبيب وتعدّ للماجستير في مجال "الفلسفة مع الأطفال" في جامعة حيفا