ذِهنيّة "غيتو وارسو" في مَعازِل غَزّة: الاستِثناء الاستِعماري في القَرن الـ 21

في فيلم 'The Pianist'، لَخّصت امرأة يهودية مسنّة واقع الحياة المروّع داخل غيتو وارسو: "في العالَم الخارجي توجَد حياة، لكن هنا... هنا الموت ينتظر". واليوم، يتردّد في أذهاننا صدى هذا الوَصف ونحن نرى المَشهد المأساوي في غزة وما يطالُ سكّانها من قتل وتدمير وتجويع وحصار وتحويل مناطق إلى معازل قسرية، وكأنّ التاريخ يُعيد نَفسه في انتظار يومِي للموت.
أَكثر من خمسمائة يوم من الحرب، تَكشف السّياسات الاستعمارية المنبثقة عن العقلية الصهيونية إذ تُعيد إدارة الحرب ليس لِحَسمها وصولًا لنصر متوهَّم، بل لتقسيم القطاع إلى "مربّعات" ومناطق نفوذ عسكري، في إعادة خَلق صورة مصغّرة من "غيتو وارسو" في عصرنا الحالي. تتحوّل غزة الآن إلى مجرّد مجموعة من المربّعات المرقَّمة الخالية من الأَسماء. تُفرض على أهلها خرائط إخلاء قسرية، وكأنّهم قِطع شطرنج تُحرّك كيفما يَشاء المُحتل.
الإِبادة المُستمرّة 1948- 2025: تَسلسُل بنيوي للهندسة السكّانية
لَم يَكن طّرد الفلسطينيين الجَماعي في العام 1948 مجرّد حَدَث تاريخي، بل بداية عمليّة هندسة ديمغرافية واسعة بدأتها إسرائيل عبر تفكيك الجغرافيا الفلسطينية. في تلك الفترة، لم تكن الاستراتيجية الإسرائيلية مقتصِرة على الاستيطان، بل تركّزت على فرض معادلات استثناء على السكان الأصليّين. هذه المعادلات إما كانت عبر التهجير الجماعي أو الإخضاع داخل مَعازل سكّانية معزولة. وكانت تلك الهندسة السكانية تمثل أداة إسرائيلية إستراتيجية لفصل الفلسطينيين عن أرضِهِم، وحرمانهم من حقّهم في العودة إلى أراضيهم التي طُردوا منها.
ما يَحدث في قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هو استكمال للرؤية الصهيونية في محاولة لإعادة تشكيل المنطقة عبر تقسيمها إلى مَعازل مفصولة، تُصبح فيها حَياة السكان اليومية مرهونة بالتحكّم العسكري والتوسع الاستيطاني. تهدف هذه السياسة إلى عزل الفلسطينيين في مناطق محدَّدة، وهو ما يتقاطَع مع ذهنية "غيتو وارسو" التي فُرضت على السكان اليهود في الحقبة النازيّة. إنّ هذه المعازل تتجاوز جغرافيا غزة إلى تصوّرات اجتماعية، إذ تعمل على محاصَرة الفلسطينيين داخل حدود ضيّقة، وبذلك يتكرّس العزل الثقافي والاقتصادي والإنساني ومن ثم يؤدي بالضرورة إلى تهجير الفلسطينيين جميعًا.
يُفشِل الفلسطينيون كلّ مشاريع التهجير المطروحة إسرائيليًا ودوليًا، فكيف يمكن إخضاعهم لذلك؟ عبر استحضار خطة مَعازل السكان الأمنية؛ أي استعادة فكرة "غيتو وارسو" وتطبيقها على غزة، من خلال تقسيم القِطاع إلى "مربعات" أمنية، كما يَظهر في خرائط التقسيم العسكرية التي رَسَمَتها إسرائيل لتأمين محاور الفصل بين مناطق غزة. فعلى سبيل المثال، يتم تقسيم القطاع إلى مناطق عازلة، محورها الشرقي هو محور "نتساريم" الذي يقسم غزة إلى شمال وجنوب، ثم محور موراغ في الجنوب بمنطقة رفح الذي يعيد فصل الجنوب رفح- خان يونس لغيتو أصغر، وبالتالي يحشر الناس في مساحات صغيرة ليسهل عليه إخضاعهم بالكامل. تتراوح هذه المناطق بين المعازل الصغيرة التي تمثل "مناطق أمنية" يتم التحكم فيها بواسطة نقاط التفتيش، والمناطق العازلة التي تبتلع نحو 20-25% من مساحة القطاع.[1]
مِن الإبادة إلى الاحتواء: ذهنيّة الغيتو في المِخيال الإسرائيلي
وفقًا لمفاهيم ميشيل فوكو وأكيل مبيمبي،[2] يُمكن اعتبار الغيتو أداة مزدوَجة تَستخدمها الدول الاستعمارية لِغايَتين: الأولى هي احتواء السكان غير المرغوب فيهم، والثانية هي تجريدهم من أيّ قدرة على المبادَرَة أو التمرّد. هُنا يُعاد إنتاج هذا المفهوم في قطاع غزة، حيث لا يتمّ الحديث عن "حلّ الدولتين" أو "عملية سياسية" كما كان يُروّج له سابقًا، بل عن "مساحات إنسانية قابلة للإدارة". وهذا يعني أنه يتمّ تحويل غزة إلى "وحدة أمنية/إنسانية" بحيث لا يُمكن التحكّم في حياتها إلا عَبر أَذرعُ الاحتلال.
لا يأتي استحضار الغيتو في الخطاب الإسرائيلي بِوَصفه كابوسًا يَجب تجنّبه، بل كأداة سياسية تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين. ويُعاد توظيفه لتبرير الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. إذ يتم استحضار صورة الغيتو كحالة استعمارية في ذهن الإسرائيليين، لكن من منظور معكوس: فإسرائيل تَستعمل ضحايا الماضي لتبرير القمع في الحاضر.[3]
يُثار الكَثير حول مَشاريع التّهجير التي تَسعي دولة الاحتلال لفرضها على سكان قطاع غزة بشكل كامل، في ما يثبت الغيتو/ات أنه وسيلة واقعيّة لفرض سيطرة طويلة المدى عبر احتجاز الفلسطينيين داخل محيط شديد الحصار، ورغم التناقض الظاهري بين المشروعين، فإنهما لا يتعارضان، فحين تفشل إسرائيل في ترحيل كامل السكان، تلجأ إلى إحاطتهم بالأسلاك، وتجريدهم من الخدمات، وعرض "الخروج الإنساني" عليهم كخيار أخير. وتُستخدم المُساعَدات كأداة هندسية لإعادة توزيع السكان، وتُوظف "المنظمات الدولية" كشركاء في إدارة الغيتو لا تفكيكه.
في قَلب هذه المَعازل تَبرز السياسات الإسرائيلية المتعلّقة بـ "إدارة التهجير الطوعي"، وهي مفهوم تكرّس إسرائيل ترويجه كحلّ للخروج من الأزمة الإنسانية في غزة. لكن، كما يشير المحللون، فإن هذا المصطلح هو مجرّد غطاء لتوسيع نطاق الاستيطان الإسرائيلي وتغيير البنية الديمغرافية في الأراضي الفلسطينية. من خلال هذه الإدارة، تسعى إسرائيل إلى دفع الفلسطينيين إلى مغادرة غزة، تحت تهديد القصف والمجازر العسكرية، وهو ما يذكرنا بنهج تهجير الفلسطينيين خلال نكبة 1948.[4]
إن ما يتعرض له الفلسطينيون اليوم ليس مجرّد حرب على الأرض، بل هو مُحاولة لإعادة رَسم الجغرافيا الفلسطينية وِفق شُروط استعمارية تَجعل من غزة منطقة أمنية خاضعة لكل أشكال السيطرة، التي تهدف إلى الإبقاء على الهيمنة دون تقديم أيّ حلول سياسيّة دائمة. وبهذا، تُصبح غزّة في نهاية المطاف "غيتو" القرن الحادي والعشرين، حيث يُعاد إنتاج الذاكرة الاستعمارية تحت غطاء التكنولوجيا الحديثة والضبط الأمني الشامل.
[1] أنظر: تقرير "بتسيلم" حول التهجير القسري في غزة، و"هيومن رايتس ووتش" تقرير عن خطة الفصل في غزة (2024).
[2] للمزيد: أكيل مبيمبي، "الاستعمار وحالة الحياة: بحث في الجغرافيا السياسية للهيمنة". و فوكو، ميشيل. "مراقبة ومعاقبة: ولادة السجن".
[3]. Winter, J. (2011). Sites of Memory, Sites of Mourning: The Great War in European Cultural History. Cambridge University Press.
[4]. Pappé, I. (2006). The Ethnic Cleansing of Palestine. Oneworld Publications.
الصورة: للمصوّر - الصحفي عبد الرحمن زقوت.
