المَنظومة الدوليّة سَقَطت في فِلسطين، عَساها تَنهَض مِنها

هي للتوّ نكبةٌ جديدة لفلسطين. تقع المسؤولية عنها طبعًا على إسرائيل والولايات المتّحدة في فِعل التوحُّش وتَمكينه. لكن المسؤولية تطال أيضًا المنظومة الدولية بكاملها، إذ هي، في فَشَلها في التصدي للإجرام أو حتى الاعتراض عليه، أثبتت مدى هشاشتها ووهنها ليَسقُط زَعْم التزامها القيمَ العالمية وحقوق الإنسان سقوطًا سافرًا، مؤلمًا. والمسؤولية تطال كذلك الإطارين العربي والإسلامي، ليتأكّد بشأنهما ما تمنّى البعض ألا يكون إلا ريبةً خاطئة، إذ اليقين اليوم أنه هنا لا نُضوج ولا تَماسك ولا جدوى. بَعض دول الجنوب العالمي، التي تفتقد رابطَ القومية أو الدين، كانت أَرقى من أهل القربى في مُناصرتها الحقّ.
هل مِن مسؤولية تسجّل للمقاومة؟ نَعَم، لكن الأَصح أنّه لا يجوز الشُّروع بالمحاسبة والمساءلة في خضمّ القَتل والتّدمير والاحتلال. والجهة الرئيسة التي مِن شأنها المقاضاة على أيّ حال هي أهل فلسطين أنفسهم. أمّا غير هؤلاء، فَمَهما صَدَق الكلام وَصَفَت النوايا، فالأَوْلى التّأجيل، كي لا يفقد النقد أهميته خاصة أنه سيصبِح سلاحًا إضافيًا بيد المُجرم يحاول بواسطته تبرير جرائمه.
النكبة الثانية التي تَعيشها فلسطين اليوم هي سُقوط مُرَكَّب للمنظومة الرّاعية للحضارة الإنسانية الواحدة، إذ تنهار أسسها الأخلاقية، فيما المُجرم الفاجر يزعم أن فِعل إسقاطها هو دفاع عن الحضارة ورَفع لها. ربما أن هذا السقوط المركّب يُراد له أن يُستكمل اليوم في غزة، لكنه لم يبتدئ فيها، وإن كان المجرم هنا، دولة إسرائيل في تأطيرها وتحقيقها الاستعلائيةَ اليهودية، من صَميم عوامل هذا السقوط على مدى القرن الماضي.
عاشت الإنسانية على مدى مئة عام وأكثر قليلًا وَهْم أنّها انتقلت من منطق القوّة إلى منطق العدل. عصبة أمم، ثم منظمة أمم متحدة، ومحكمة عدل دولية، وأعداد واسعة من المؤسسات والمنظَّمات لتجسيد القناعة التي كان من المفترض أنها تأصلت في الخطاب العالمي والضمير الإنساني، والقائمة على المساواة بين كافة الناس في الحقوق والواجبات. حقّ الحياة والحريّة والكرامة والملكية وواجب العدالة والتعارف والتفاهم والتكافل.
كان وهمًا لأن الممارَسة لم تكن يومًا على مستوى الوَعد، بل جاءت، كما حذَّر المشكّكون، على مَقاس الدول الكبيرة. كان وعدًا غير مكتمل المقومات منذ نشأته بالتأكيد. وتركيبة مجلس الأمن بحدّ ذاتها دليلٌ واضح على ذلك. للقوى العظمى أن تقرّر - أليست هي الراشدة الرشيدة؟ - وعلى بقيّة العالم، الناشئ الصاعد القاصِر، أن يَقبل.
بَعضُ أَقبَح ما كان على هذا العالم أن يَقبله هو الامتيازات المتراكمة التي مُنحت لإسرائيل في مسعاها الاستيطاني الاستبدالي في فلسطين. الاستيلاء على أراضي الغير ليس مشروعًا، إلّا لها. الاستعمار الإحلالي صفحة قد طويت، إلا في ما يخصّها. تطوير السلاح النووي خارج الرّقابة الدولية محظور على الجميع، ما عَداها. التناسب في رُدود الأفعال وتَجنيب غير المحاربين الأذى فَرْض على كافة الدول، إلّاها.
حُجَج واهية، وسياقات مُلتبِسة قُدّمت صراحة وضِمنًا، لافتراض أن هذه الامتيازات هي آنية وطارئة واستثنائية، بل رسالة التّطمين كانت أن الأمرَ هو استثناء ذاهِب إلى الاضمحلال ثم الزوال، وقد أُتيح وَحَسْب لمراعاة مخلّفات المراحل السابقة، وإن كان ذاك تاريخًا لا علاقة له بمن يدفع أكلافه من أهل فلسطين. غير أن الاستثناء صار القاعدة. وكل كسب لإسرائيل أَمسى الأساس المعياريّ الجديد الذي تستدعي أيّة علامة استفهام بشأنه الاستهجان والتّهويل داخل إسرائيل نفسها وفي أصقاع الغرب. كل الأعذار تُطرح وتُروّج، وأشنعُها ما يأتي بلسان عربي، وبلباس عربي.
وكلما أمعنت المَنظومة الدوليّة في تطبيع الامتيازات والممارسات، وهذه التجاوزات المشهودة للأطر التي ألزمت المنظومة نفسها بها، كلّما تراجَعَت مشروعيتها. ما كان التوجّه الجهادي ضمن الحركات السياسية الإسلامية ليتمكن من التوسع، ثم من الشَطح، باتجاه العنف والتّكفير والرفض الصريح للمنظومة الدولية، لولا أن التناقض بين الزعم والتطبيق فيها قد بلغ ذروته في موضوع فلسطين.
يَجِد العالَم نَفسه اليوم أمام نكبة حَسّيّة تطال أهل غزة والضفة في فلسطين، وأمام أخرى معنوية تشمل كامل المنظومة الدولية العاجزة إِذ تسقط، فيما يسعى السّيد الحالي للبيت الأبيض للإجهاز عليها توطيدًا لسلطته وسطوته على العالم أجمع، ربما باستثناء إسرائيل.
على أنه من الخَطَأ التخلّي عن مَكسب الحضارة الإنسانية الواحدة، وإن تهاوت المنظومة التي كان من المفتَرَض أن تحتويها. ما شَهِدَه القرن الماضي لم يكن نتيجة مخادَعَة من أطراف تُريد الاستيلاء على ما أَمكَنَها من رصيد البشريّة جمعاء، وإن تسلّل أكثر من طرف إلى المنظومة يعبث بها ويَنشط لتجييرها لصالحه. بل إن قيام المنظومة الدولية جاء نتيجة فعل تصاعديّ شاقّ للإنسانية جمعاء، في تشكيل النظم واعتماد الأديان والتّوافق على الأطر التي رَسَمت معالم الإدراك المشترَك أن خَير البَعض مِن خَير الكلّ، وأن القيمة الجوهرية هي حياة الإنسان وكرامته، فردًا ثم جماعة.
وعلى الرغم من النواقص التي اعترت ما تم إنجازه، بل وإن جاء هذا الإنجاز نفاقًا لمصالح ضيّقة، فإن ما كان قائمًا أتاح المجال، في بعض الأحوال إن لم يكن فيها كلّها، للضعيف المؤيَّد بالحق أن يقاوم القوي المغتصِب له.
خَذَلت المنظومة الدولية فلسطين. لكن لا الرابطة القومية ولا الجماعة الدينية نَصَرتها. من حقّ الإنسان الفلسطيني أن يُعلن البراء منها جميعًا. غير أن الأصح ربما أن يكون الإقرار بالنقصان الكامن فيها وعدم التخلّي عنها، فما لا يُدرك جلّه لا يُترك كلّه. والرغبة بالتقوقع على حساب البعد العالمي، أو العربي، أو الإسلامي، شعور يُمكن تفهمه، لكن الأصحّ التّعالي عليه. فكلُّ فَراغ يتركه الانسحاب من أيٍّ من هذه الأبعاد سوف تملؤه السرديّات التي تجعل من الضحية جلادًا، ومن الجلاد المجرم ضحيّة.
فيما أهل فلسطين يقاومون المآل الذي يريده لهم الاستعلائيون وأنصارهم من نكبة وتهجير، يتوجّب على مَن يدعمهم أن يبذل الجهود على كلّ الأصعدة، رغم تفاوت الإمكانيات، وأقلّها أن ينصبّ على التوثيق الشامل الدقيق، وأن يستجمع الخبرات للتبيُّن والتحليل والاستشفاف ومواجهة التضليل، وأن يتواصل مع العالم، كلّ العالم، للدعوة للحقّ والعمل على إحقاقه.
المنظومة الدولية قد رَسَبَت، وما سوف يحلّ محلّها ليس مكتَمِل المَعالم. عسى أن يكون رسوبها محفزًا لاستنباط أشكال جديدة للسعي إلى تحقيق الوعد بالحرية والعدالة. لفلسطين والعالم.

د. حسن منيمة
المحاضر في معهد الشرق الأوسط بواشنطن