مُحاوَلَة لِفَهم "الأَزمَة الإسرائيليّة"

إنّ المتأمِّل والمُتابع لكلّ مِن الدولة والمجتمع في إسرائيل يَصل إلى تَبصِرة ونتيجة مفادها أن المجتمع الإسرائيلي والدولة مَأزومان. وقد تفاقم هذا التأزّم واتّسع وتعمّق في السنوات الأخيرة، وبِشَكل أكثر حدّة وضراوة مُنذ السابع مِن أكتوبر 2023، الشيء الذي أثّر وما زال يؤثّر بِشَكل جليّ وصاعق على مُجمل جَوانب الحَياة السياسيّة والثقافية والقضائية، والعسكرية، والمؤسساتية، والمجتمعية. وكلّما تعمَّقت الأزمة تعمّق خِطاب الكراهية والعنصرية والفاشية والمسيانية المُحايِث للأزمة المتجذّرة التي أصبحت تُتَرجم بشكل يومي إلى مَشاهد أكثر حدّة وقساوة ووحشية.
ويُطرَح في هذا السياق العَديد من الأسئلة المُلحّة والضرورية، فعلى سبيل المثال لا الحصر: ما هي طبيعة الأزمة؟ ما هي أسبابها؟ وما هي إسقاطاتها وتَبِعاتها؟ ولماذا تشكّل هذه الأزمة المُزمِنة والممتدة مصدرًا خصبًا ومنجمًا ثريًّا لإنتاج خطاب الكراهية والعنصرية وخصوصًا اتجاه المجتمع الفلسطيني في جميع أماكن تواجده؟
في مقدّمة كتابه "في مفهوم الأزمة" التي كتبها الفيلسوف وعالم الإجتماع إدغار موران، للترجمة العربية يقول:
" يحمل مفهوم الأزمة داخله اختلالَ التّوازن وغِياب اليقين. يُمكن أن يتعلّق غياب اليقين بسبب الأزمة لكنّه متعلّق دائمًا بمستقبَلها. هل سوف تُمتص؟ هل ستتفاقم؟ هل ستسبب تراجعًا أو تقدمًا...أو الإثنين معًا؟ أو عودة إلى الوضع القائم؟".
ويُضيف موران: "حاولتُ أن أُثبت، إضافة إلى اختلال التّوازن وغياب اليقين اللذين تحملهُما، تتمظهر في الإخفاق في ضبط نظام الكَبح أو الكَبت أو كَبت الانحرافات للحفاظ على الاستقرار، ومِن هنا، تتطوّر الانحرافات التي لا تَعود مَكبوتة وتُصبح اتّجاهات فعالة..".
تَحثّ إشارات موران العقل على أن يكون حاضرَ الانتباه دائمًا من أجل تقصّي العوامل الأساسية التي تؤدي إلى تفاقم الأزمة وتردّي انحرافاتها وبَحث الإمكانيات والسُبُل من أجل مواجهتها وصدّها.
لا يُمكن من خلال هذه المساهَمة المقتضَبة والقصيرة رصد جميع الفَواعل المؤثّرة على تضخُّم الأزمة وتتبعها، لكن مع ذلك، مِنَ الممكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل وأوضاع وحالات مركزية تؤثّر في تشكّلها وانتشارها، وإن كان واحدها يرتبط بالآخر بشكل بنيويّ ومتشابك ويغذّيه بشكل ارتباطيّ، طَرديّ وخطير:
١) أزمة قيادة: تواجِه إسرائيل منذ سنوات طويلة أزمة قِيادة في جميع مجالات الحياة وخصوصًا في المجال السياسي، وقد تجسّدت هذه الأزمة بعدم الاستقرار السياسي وإجراء الانتخابات البرلمانية بوتيرة كبيرة، ما أدّى إلى فرز قادة فاسدين قُدّمت ضدهم لوائح اتهام جنائية، بمَن فيهم رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو الذي يَمْثُل الآن أمام المحاكم متَّهَمًا بتلقي الرشوة وخيانة الأمانة. أضف إلى ذلك، فإن نتنياهو يَنهجُ نهجًا شعبويًّا ويعمل بالأسلوب نفسه الذي نَهَجته بعض الأنظمة الشعبويّة المناهضة للديمقراطية والمتمسّكة بحكم الأكثريّة (ظلم الأكثريّة) والتي تَعمل على قمع الحرّيات وقمع الأقليّات مثل هنغاريا أوربان وروسيا بوتين وبرازيل بولسينارو وأمريكا ترامب وبولندا اندجي دودا وهند مودي ... إلخ.
كَسياسي شَعبويّ وقيادي يميني أيديولوجي متطرّف، يُمارس نتنياهو التّحريض الدائم ضد الشعب الفلسطيني ويصوّره كعدو يَجِب التخلّص منه، كما تجلى ذلك بالتحريض ضد المجتمع الفلسطيني في الداخل من خلال التصريحات والقرارات الحكومية والقوانين العنصرية، وكما يتجلّى مِن خلال ممارسات التّهجير والإبادة والتجويع والقَهر في قطاع غزة، وتَعميق سياسات الاستيطان والضمّ والهدم والاعتقال في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى أَثَر هجوم السابع من أكتوبر 2023، امتنعت هذه القيادة عن، وتهرّبت مِن تحمّل المسؤولية عن الفشل، ما أفقَدَها الثقة مِن قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. ورغم أنّ هذه القيادة تُراكم الفَشل تلو الفَشل منذ اندلاع الحرب، ولم تحقّق الأهداف التي وضَعَتها، وتَرفُض تسمية لجنة تحقيق رسمية، فإنها ما زالت متمسّكة بالسلطة، مُستبدّة بها وساعية بشكل منهجي إلى إِحداث انقلاب شامل في نظام الحكم.
من تجلّيات الأزمة أيضًا وُصول قوى مِنَ اليمين المتطرّف المسياني الاستيطاني من حزب الليكود و"عوتسماه يهوديت" والصهيونية الدينية إلى مواقع قيادية مركزيّة ومؤثّرة استطاعت من خلال ذلك فرض نفسها وأجندتها السياسية الفاشية.
٢) حالة ضعف: بالإضافة إلى أزمة القيادة فإن المجتمع الإسرائيلي يواجِه حالة ضَعف متراكِم منذ سنوات نتيجة للتوتّرات والتصدّعات الداخلية بين فئات مختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي، واتساع حالة الاستقطاب نتيجة لوجهات نظر متناقضة حول علاقات الدين والدولة، والمحافظة، والحداثة، والحوكمة. وقد ضاعَفَ الإعلان عن "الانقلاب النظامي والقضائي" التوتّرات الداخلية التي اقتربت مِن حرب أهلية. كما أن السابع من أكتوبر لم يُظهِر عُمق الضّعف المجتمعي فحسب، بل فَضَح ضعف المؤسَّسة العسكرية والأجهزة الأمنية وعدم الجاهزية وانهيار مؤسسات الدولة وغيابها عن حماية المواطنين، مما عزّز مَشاعر الخوف وعدم الثقة واللايقين، وذلك رغم أن هذه الأجهزة أدارَت في مرحلة لاحقة حروبًا على عدّة جبهات وحققت نجاحات إستراتيجية وتكتيكية، إلا أنها ما زالت مأزومة في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. وقد سبق وأَشار مؤسس علم الاجتماع "ابن خلدون" في مقدّمته إلى ضعف الدولة في الجيل الثالث، وتفشّي حالة التّرهل والتّرف حيث يقول: "بل إنهم مع هذا يُحاولون إظهار القوّة من خلال احتكار السّلاح والجيش، وذلك لقمع الناس إذا أرادوا الثورة ومواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة". وبالتالي فإنه رغم حالة الضّعف فإن المتنفدين بالسلطة يمارِسون أقسى وسائل القوة وأبشعها ضدّ الآخر، وكم بالحري إذا كان عدوًا يُنظَر إليه باستعلاء واستخفاف.
٣) حالة خوف: حالَة الخَوف مُتأصّلة في المجتمع الإسرائيلي، هُنالك خَوف حقيقيّ وخَوف موهوم، جزء مِنه نتيجة "الكارثة"، والجُزء الآخر نتيجة الشّعور بتمسك الفلسطينيين بحقوقهم وعدم خضوعهم وتنازلهم عنها، بما في ذلك الأرض والوطن اللذين سُلِبا مِنهم. لقد أدّت أحداث السابع من أكتوبر إلى ازدياد مشاعر الخوف الشخصيّ والجمعيّ وعدم الشّعور بالأمان، مما أدّى إلى ازدياد هجرة الأدمغة والمُتَمكّنين اقتصاديًا للخارج ويعيش الكثير من الإسرائيليين حالة ما بَعد الصَّدمة، وهُنالك فقدان للثقة بالجيش وجهاز المخابرات ومؤسسات الدولة والسياسيين، خصوصًا أن المجتمع أصبح يوقِن أن مواصلة الحرب لا تَخدم إلّا مصالح نتنياهو وائتلافه السياسيّ. من الجدير بالذكر أيضًا أن إسرائيل تواجه حالة مِن العزلة الدولية بعد أن أَفرَطَت في استعمال القوة والعنف ضدّ الأبرياء في قطاع غزة.
إن اجتماع هذه العوامل الثلاثة: أزمة القيادة، الضعف والخوف، تَجعل القوى السياسية والثقافية والإعلامية والعسكرية المسيطرة والمهيمِنة تُحرّض وتُجيّش المجتمع وتوجّه حقده وكراهيته وغضبه اتجاه "العدو الفلسطيني"، وخصوصا أهالي قطاع غزة الذين يمارس ضدهم أشنع وأقسى وأفظع الممارَسات التي لا يَقدِر على تحمُّلِها بَشَر. سَبَقَت الممارَسات تصريحاتٌ تدعو إلى "مَحو القِطاع" أو "إلقاء قنبلة نووية على غزة"، والقول إنه "لا يوجد أبرياء في غزة"، "إنّهم حيوانات".. وما إلى ذلك مِن تَصريحات خَطيرة وغير مسبوقة في الصراعات المعاصِرة نوعًا وكَمًّا ومضمونًا، الشيء الذي دفع المحكمة الجنائية الدوليّة إلى محاكمة القيادات الإسرائيلية.
لا يَكتفي خِطاب الكراهية والعنصريّة بالتّحريض والشيطنة والإقصاء ضدّ المجتمع الفلسطيني، بل يَعمل على إسكاتِه وإِخراسه، وليست سياسات الإسكات والإخراس مجرّد مسّ بالحق في التعبير وإبداء الرأي، وإنما هي أكثر من ذلك بكثير، هي نزع للإنسانية وطَعن بالوجود ومسّ بسلامة العقل والروح كما تقول الكاتبة المعروفة أليف شافاق في كتابها الأخير: "كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم؟" (إصدار دار الآداب، بيروت لبنان 2023): "فأنت حين لا تستطيع أن تَقُصّ حكايتك، حين تُسكت وتُخرس، إنما تُنزع منك إنسانيتك، ويُطعن في وُجودك ذاته. يَدفعك هذا الأمر إلى أن تشكّ في عقلك، وصحّة روايَتِك للأحداث، بل يَخلق فيك قلقًا وجوديًّا عميقًا".. "فنحن حين نَفقِد صوتَنا، يموت شيء في داخلنا".
ليس هنالك حلّ سِحريّ ووحيد لمواجهة الكراهية والعنصريّة والتطرّف، بل يجب العمل بواسطة إستراتيجيات متعدّدة وبشكل تَكاملي، حيث إن هنالك خطوات يجب أن تُتّخذ على المستوى القريب وأخرى على الأمد البعيد. والشيء الأساس الذي من الممكن أن يحمي الشعب الفلسطيني هو وحدته ووحدة مؤسساته والاتفاق على تصوّر وطني موحَّد وجماعي متّفق عليه. ومن ثُم تَفعيل جميع مستويات العمل والنشاط الشعبي والدولي وغيرها، والمطالبة بالضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها. والشيء الأساسي والمُلِح في هذه المرحلة وعلى رأس سلّم الأولويات، وقف الحرب والإبادة والتّجويع والقهر والتهجير ضد سكان قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية لهم.
تصوير: مكتب الإعلام الحكومي.
