النُزوح القَسريّ المُمَنهَج: عذاباتُه ومَغزاه

شَكَّل النُزوح القَسريّ نَهجًا للاحتلال الإسرائيلي على مَدار أكثرَ من عامٍ ونصفَ عام من العُدوان على الشّعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي تعرّض وما زال لمَوجات عديدة من أَوامر نُزوح متكرّرة، تزيدُ ظروفه تعقيدًا ووجعًا على المستويات كافة.
يُعرّف النُّزوح القسريّ بأنّه نَقل السُكّان المَدنيّين من أَماكن سُكناهم بالإكراه، نتيجة عوامل مختلفة مِثل النزاعات المسلّحة، وانتهاكات حُقوق الإنسان، أو كوارث طبيعية، دونَ رَغبَتهم، سواء داخِل الدولة أو خارجها.
رافقَت عمليات النّزوح المستمرّة حالة صمود أسطوريّة عبّر عنها الشعب الفلسطيني في القطاع، خلال العدوان المستمر وغير المَسبوق بتفاصيله وتداعياته، والذي خَلَق واقعًا إنسانيًّا كارثيًّا جسَّد قرارات اتّخذتها حكومة الاحتلال منذ بداية الحرب، حيث فُرِض الحِصار المشدَّد وتمّ وقْف الإمدادات الأساسية، وفي مقدّمتها المواد الغذائية والصحية والأدوية، وقُطِع التيار الكهربائي والمياه المُستوردة مِن دولة الاحتلال.
أَصدَرَ الاحتلال الإسرائيلي أوامرَ بالنّزوح من مدينة غزة وعُموم شَمال القِطاع، والتّوجُّه إلى مناطق جنوب وادي غزة، دون العَمل على توفير ممرّات إنسانية آمنة أو مراكز إيواء ولجوء إنسانيّ مؤقتة، وذلك وَسَط قصف الطائرات الحربيّة، وإطلاق نار استهدف قوافل النازحين الذين تَرَكوا خلفهم بيوتهم وممتلكاتهم ومقتنياتهم. فيما آثَرَ مئات الآلاف البَقاء في الشمال في ظروف قاسية وغير إنسانية، وحيث ارتكبت قوات الاحتلال مَجازر بحقّ الباقين في ظلّ حالات نزوح مستمرة داخل المدن من مكان لآخر.
توجَّه النازحون إلى مراكز إيواء تابعة للأونروا، وإلى بيوت أقارب وأصدقاء، وإلى أماكن مختلفة، واضطروا إلى الإقامة في خِيام مصنوعة من القماش والبلاستيك، في ظروف غير إنسانية لا تتوفر فيها البنية التحتيّة والحدّ الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية.
حاول الاحتلال فَرض منطقة المَواصي غرب مدينتي خان يونس ورفح كمنطقة إيواء للنازحين، الأَمر الذي لم يَمنع تعرُضها يوميًا للقصف والغارات الجوّية.
عاش الفلسطينيون في غزة وما زالوا أوضاعًا كارثيّة على كافة المستويات وبكافة تفاصيلها، فالنساء والأطفال وكبار السن والمرضى والجرحى عانوا النزوح القسري مرات عدة من مكان إلى آخر. لقد فَرَض الاحتلال قرارات الإِخلاء القَسري على غالبيّة المدن والقرى والمخيّمات في مختلف مناطق القطاع، في ظلّ فقدان أَبسَط مقوّمات الحياة البشرية التي يجب توفيرها، كالماء والغذاء والخدمات الصحية، والحماية من انتشار الأمراض والأوبئة، وفيّ ظل سوء التّغذية جراء التجويع والتعطيش ضِمن سياسة مُمَنهجة لهندسة حياة الفلسطينيين.
وفي ظلّ واقع النزوح، كانت هناك استجابة مِن جهات محلّية ومنظمات أهلية فلسطينية ودولية بذلت جهودًا كبيرة، وتحرّكت لتقديم الخدمات المُمكنة إلى المناطق التي أجبر النازحون على التوجه إليها، وذلك من أجل التّخفيف من وطأة النزوح وأوجاعه، تمثّل ذلك في نقل المياه الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي، وتقديم الوجبات الغذائية من خلال المَطابخ المُجتمعية، والمساعدة في توفير الخيام، وإقامة نقاط طبّية للعلاج وتقديم الدعم النفسي، وتوفير مساحات تعليمية للأطفال، وغيرها من الأنشطة التي هدفت إلى التّخفيف من وطأة العدوان والنزوح.
ومع إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في الـ 17 من كانون الثاني/ يناير الماضي شَهِد العالم إرادة الفلسطينيين في العودة، يحذوهم الأَمل بإعادة بناء ما تبقى من حياتهم، وتحدّي كلّ المعوقات، وتجلّى ذلك في إصرارهم على العودة التي أَبهَرَت العالَم، حيث تجمّع عشرات الآلاف من الفلسطينيين في انتظار سَرَيان وقف إطلاق النار في الـ 19 من كانون الثاني/ يناير، عند تلة النويري غرب مخيم النصيرات، استعدادًا للعودة إلى غزة وشمال القطاع. استشهد وأصيب العشرات منهم، وبالرغم من ذلك فقد عادوا مشيًا على الأقدام، مع عِلمهم بتدمير الاحتلال بيوتَهم، وأقاموا الخيام فوق أنقاض ما تبقّى من ذكرياتهم، وفي مراكز إيواء المفتقدة لمقوّمات الحياة الأساسية في أحياء عاشوا فيها طوال حياتهم، في تجلٍّ للإرادة والإصرار على ترميم ما يمكن ترميمه، وتوفير أبسط الاحتياجات من أجل البقاء في مدنهم التي عادوا إليها.
وعلى الرغم من خرق الاحتلال الإسرائيلي اتفاق وقف إطلاق النار، لم يَفقد الناس الأمل، وبرغم ذلك واستئناف العدوان وإغلاق المعابر ووقف إدخال المساعدات، والقصف واستهداف مختلف مناطق قطاع غزة بما في ذلك تلك التي عاد إليها المواطنون، وفرض قرارات الإخلاء القسري.
أصدَرَ الاحتلال-حتى كتابة هذه السطور- قرارات بإخلاء مدينة رفح وبيت حانون وشرق خان يونس وشرق مدينة غزة، وأعلن إنشاء محور جديد يفصل مدينة رفح عن مدينة خان يونس.
وتقدر الأمم المتحدة أن 69% من مساحة قطاع غزة مناطق لا يمكن الوصول إليها في ظلّ قرارات الإخلاء القَسري، أو بفرض ما يُسمى بالمناطق العازلة في ظلّ استكمال الاحتلال عمليات نسف وتدمير ما تبقى من مظاهر ومقومات الحياة في تلك المناطق.
ويُقدَّر عَدد النازحين قسريًّا منذ الثامن عشر من آذار/ مارس الماضي وحتى الآن بنحو نصف مليون نازح، حيث يُعتَبَر النّزوح هذه المرّة الأَسوأ منذ بدء العدوان الإسرائيلي في ظلّ الحصار المشدّد ومنع دخول المساعدات ونفاد الكثير من أصناف المواد الغذائية والطبية ومستلزمات الإيواء والنظافة وغيرها، إلى جانب استهداف الاحتلال النازحينَ في مختلف مناطق تواجدهم وإحراق الخيام بمن فيها من عائلات.
وعلى الرغم من التّوصيف القانونيّ للنّقل القَسري للسكان بأنه انتهاك جسيم ويعدّ من جرائم الحرب، ومسؤولية سلطات الاحتلال في انتهاك كافة مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، فقد تخلّى المُجتمع الدولي عن مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية والقانونية في حماية السكان، ووقف جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بما في ذلك النّزوح القَسري.
لم يعد هناك مجال للشك أنه من دون تفعيل آليات المساءلة والمحاسبة والضغط الجَدّي على الاحتلال، فإنّه ماضٍ في عدوانه واستهداف المدنيين وتدمير مقومات الحياة وفرض النّزوح القسري وتعميق الأزمة الإنسانية، والخشية قائمة من قيام سلطات الاحتلال بتنفيذ سياسة التّهجير القسري ضد شعبنا.
وبعد عام ونصف العام ما زال الشعب الفلسطيني يمر بأسوأ مراحل تاريخه، وهو منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 يتطلّع إلى الأطراف الفاعلة من الدول العربية والدولية لبذل جهود أكبر لوقف العدوان الإسرائيلي وتداعياته الخطيرة في ظل استمرار الكارثة الإنسانية غير المسبوقة على مستوى العالم، والعمل الجاد من أجل إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة وعدم السماح للاحتلال في الاستمرار بجرائم الإبادة الجماعية، وتنفيذ مخططاته بتَهجير شعبنا الذي يعبّر في كلّ لحظات وَجَعه وأَلمه عن صموده وتمسّكه بأرضه وحقوقه غير القابلة للتصرف.

د. أمجد الشوا
مدير شبكة المنظمات الاهلية الفلسطينية ونائب المفوض العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين وحاصل على شهادة الماجستير في الدراسات الامريكية وبكالوريوس في التسويق.