تفاقم العنصرية المُمَأسسة بالصحة في ظل حكومة اليمين الفاشي
العنصرية في الجهاز الصحي هي ظاهرة مرفوضة من الناحيتين الإنسانية والأخلاقية، فهي تتعارض مع جوهر وأخلاقيات المهن الطبية التي تعدُّ من أهمّ المهن الإنسانية التي تهدف إلى الحفاظ على حياة المرضى، ورعايتهم وحمايتهم دون إلحاق أي إساءة بهم أو ضرر لهم أو بصحتهم بشكل متعمد أو غير متعمد. إلا أنه وللأسف الشديد نرى أن هذه الظاهرة منتشرة وبشكل كبير في الجهاز الصحي، رغم رفض اعتراف قيادات الجهاز الصحي بهذا الأمر، حيث يرون في الاعتراف بها وصمة قد تضر بمركز هذا الجهاز والعاملين به، وبخاصة الأطباء.
تشهد السنوات الأخيرة نقاشا حادا بين الأخصائيين حول العنصرية المؤسساتية في الصحة، وقد تم نشر هذه النقاشات في مجلات علمية رائدة وعريقة تصدر في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وأوروبا، وخاصة إبان أزمة كورونا التي أظهرت تفشي هذه الظاهرة ومدى انتشارها.
العنصرية في الصحة والجهاز الصحي ليست بالأمر الجديد علينا نحن الفلسطينيين في هذه البلاد. حيث إنه يتم استخدام هذا الجهاز كذراع سلطوي يتم بوساطته قمع الفلسطينيين متعالجين كانوا أو معالجين. تتسم هذه العنصرية بعدم تطوير الخدمات الصحية بشكل يليق بالاحتياجات الصحية في البلدات العربية وعدم تطوير القوى العاملة بالمهن الطبية ووضع العراقيل أمام قبول طلابنا للتعلم بجامعات البلاد. كما أن الجهاز الصحي يشرعن التعامل مع الفلسطينيين العاملين والمرضى كمواطنين بدرجة متدنية. حيث إننا نجد أن عددا قليلا جدا من العاملين في الجهاز الصحي يتبوأون مناصب صنع القرار، ومن هنا فإن المساواة الصحية هدف بعيد المنال.
رغم أن العنصرية تعتبر جزءا من تجربتنا الحياتية ومعاناتنا اليومية في البلاد، إلا أننا نشهد في الفترة الأخيرة ارتفاعا حادا بالتصريح عنها علنا، بل وعدم محاولة إخفائها. ففي خضم المعركة الانتخابية الأخيرة، في شهر أكتوبر من العام 2022 قام طبيب مسؤول في قسم جراحة القلب في مستشفى كبير في الجنوب بالإدلاء بتصريحات عنصرية عن الرحم العربي وكيف أنه يشكل تهديدا على دولة إسرائيل ووجودها. تبعه في نهاية شهر ديسمبر من السنة نفسها إعلان عضوة الكنيست من اليمين المتطرف وتدعى ستروك أن الأطباء والمعالجين بإمكانهم رفض معالجة مريض إذا كان يتناقض ذلك مع قيمهم ومبادئهم، وبخاصة في حالة وجود معالجين آخرين مستعدين لتقديم الخدمة لذلك المريض، وقد اقترحت بذلك علاجا مميزا وعنصريا تجاه الأقليات ومنهم العرب في البلاد. وقوبلت هذه التصريحات بالاستنكار والاشمئزاز من قبل الكثيرين وبخاصة أعضاء الكنيست العرب والمهنيون ونقابة الأطباء العامة في البلاد. خلال الفترة نفسها تم توقيف طبيب عربي عدة أسابيع عن العمل بتهمة ملفقة عن إطعامه لأسير فلسطيني وثبت أنها تهم كاذبة. وقبل أسابيع قليلة تم الاعتداء بالضرب المبرح على طبيب عربي خلال عمله في عيادة في بلدة يهودية، حيث كان يدير هذه العيادة منذ سنوات طويلة. وفي بداية شهر شباط قامت امرأة يهودية في قسم الولادة في مستشفى في مركز البلاد، بطلب نقلها من غرفة في القسم نفسه لرفضها أن تتواجد معها والدة عربية في ذات القسم، مما اضطر المرأة العربية للانتقال إلى غرفة أخرى في المستشفى نفسه. ثم نرى مؤخرا نشر مقالات تحريضية ضد الطلاب العرب الذين يدرسون الطب في البلاد، بادعاء أنه يتم قبولهم للتعليم دون مؤهلات، وفي الوقت نفسه يتم رفض الجنود المحررين لدراسة الطب مقابل إفساح المجال للعرب! تبعتها اقتراحات من قبل أعضاء كنيست من اليمين الفاشي بإلغاء الاعتراف بشهادات الجامعات الفلسطينية بحجة حصر ما يسمى بالإرهاب. طبعا الهدف هو قطع الروابط بين أطراف المجتمع الفلسطيني في الداخل والضفة وتجهيل المجتمع الفلسطيني في الداخل وتحديد عمل العاملين في المهن الطبية ممن يدرسون في الجامعات الفلسطينية، علما أن نسبة الطلاب العرب الذين يدرسون الطب والمهن الطبية في الجامعات الفلسطينية مرتفع. ذلك على الرغم من عدم قيام أي منهم بأي عمل غير قانوني!
العنصرية في الجهاز الصحي في البلاد هي ظاهرة مؤسساتية متأصلة يعود تاريخها إلى النكبة وقيام دولة إسرائيل وحتى من قبلها إبان الانتداب البريطاني الذي عمل على تطوير صناديق المرضى والخدمات الصحية لليهود من قبل الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية وتهميش الاحتياجات الصحية للفلسطينيين - سكان البلاد الأصليين – حيث يرتبط هذا التهميش ارتباطا عضويا بالأحداث التاريخية والسياسية في هذه البلاد أسوة بما حدث في جميع المرافق الحيوية مثل التعليم والرفاه الاجتماعي والتخطيط والبناء والمواصلات وغيرها من الخدمات. سياسات التهميش والإهمال التي شهدتها البلدات العربية إبان الانتداب البريطاني استمرت بعد قيام دولة إسرائيل، بل اتسعت. حيث إنه لم يتم تطوير الخدمات والمرافق الصحية وفقا لاحتياجات المجتمع الفلسطيني في البلدات العربية. وتنصب عدم المساواة هذه وانعدام العدل الصحي في صلب العنصرية المؤسساتية في الجهاز الصحي.
تعتبر العنصرية في الصحة جزءا من العنصرية المؤسساتية أو النظامية، التي تشمل الأنماط والهياكل المجتمعية التي تعمل بشكل ممنهج على قمع مجموعات معينة على أساس انتمائها العرقي أو الإثني أو القومي، حيث تخضع هذه المجموعات لسياسات وظروف قامعة أو سلبية على أساس العرق، أو اللون، أو الانتماء الجندري، أو غيره؛ وقد تكون الممارسات القمعية هذه من خلال مؤسسات الدولة والخدمات الحكومية التي تمنحها الدولة، أو من خلال نظامها التعليمي، أو الصحي، أو الرفاه الاجتماعي، أو السكن، أو المواصلات، أو غيرها. وما يميز العنصرية المؤسساتية أنها متجذرة في الجهاز الحكومي أو المؤسساتي بشكل يصعب الكشف عنه وذلك على عكس العنصرية الفردية التي عادة ما تكون واضحة للعيان وتحدث بين شخصين أو أكثر. تقوم العنصرية المؤسساتية بشرعنة العنصرية الفردية وتغض النظر عنها بطريقة تجعل منها "طبيعية" حيث يتم تطبيعها وتطبيقها كجزء من الحياة اليومية.
على الرغم من أننا كمجتمع عربي فلسطيني نعاني من العنصرية بشكل يومي وعلى عدة مستويات، إلا أننا نشهد كما أوضحت أعلاه ومنذ تأسيس حكومة اليمين الفاشي تفاقما في ظاهرة العنصرية في الجهاز الصحي، حيث نرى أن العنصرية باتت علنية، دون أي محاولة لإخفائها. هذا التفاقم في العنصرية له أبعاده وإسقاطاته على الصحة وقد يؤدي إلى تردي الوضع الصحي الذي يعاني منه العرب الفلسطينيون في هذه البلاد، حيث تظهر دراسات علمية عالمية ومحلية قمنا بها نحن وغيرنا من الباحثين أن العنصرية تمس بصحة من يتعرض لها على عدة مستويات وتؤدي إلى تدهور في الصحة الجسدية والنفسية، كونها ترتبط بارتفاع ضغط الدم وأمراض مزمنة مثل السكري وأمراض نفسية مثل الاكتئاب والقلق والصدمات وارتفاع في حالات الإدمان على الكحول والمخدرات والتدخين. عند النساء، التعرض للعنصرية قد يؤدي أيضا إلى ارتفاع حالات الاكتئاب بعد الولادة. من الناحية الأخرى، إن تعرضنا للعنصرية الشرسة والمشرعنة من قبل الحكومة الفاشية الحالية من شأنه أن يخلق فرصة لبناء جهازنا الصحي، كإحدى أدوات مناهضة العنصرية ووسيلة لاقتلاع جذورها.
بروفيسور نهاية داوود
رئيسة لجنة متابعة القضايا الصحية في المجتمع العربي الفلسطيني في البلاد