"لعبة الأمم": أين نحن منها؟
حالفني الحظ في الآونة الأخيرة أن أطّلع عن كثب على جوانب من عملية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبيّ، وهي إحدى أهمّ المؤسّسات الدَّولية المؤثرة على الصراع الإسرائيليّ – الفلسطينيّ، وعلى مساعي إعادة احياء ما اُصطلح على تسميته بـ "عملية السّلام". وقد ارتأيتُ بهذه المناسبة مشاركتكن.م ببعض الانطباعات.
لن أتطرّق في هذا المقال إلى دور بعض الدول الأوروبيّة في مآسينا بمنطقة الشّرق الأوسط، ولا إلى الإنجاز العظيم المتمثّل بإقامة هذه الجمعيّة الدوليّة التي تأسّستْ قبل 32 عامًا، ولا إلى المساعي لإقامتها منذ خمسينيات القرن الماضي، ولو أني كنت أتمنى أن نتعلّم من هذه التجربة لنستفيد منها في سياقنا العربي يومًا ما.
كُنتُ هناك ضمن وفد لصحافيين تلقوْا دعوةً للتعرّف إلى مؤسّسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل- بلجيكا، وقد شملت الجولة هناك أكثر من عشرة لقاءات مكثفة في يوميْن ونصف اليوم، مع مُمثلي الاتحاد الأوروبيّ الأرفع، المسؤولين عن ملفّات الشرق الأوسط بشكل عام، وتحديدًا الصّراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ وعمليّة السلام والمفاوضات مع إيران، إلى جانب قضايا أخرى منها: الحرب في أوكرانيا، ومناهضة اللا-ساميّة، والتكنولوجيا والابتكارات، والعلاقات في ضوء سياسة دول الجوار التابعة للاتحاد الاوروبيّ، وحرب المعلومات المُضلّلة.
سأصدقكم القول إنّني ما زلتُ أستصعب فهم تركيبة الاتحاد الأوروبيّ، حتّى بعد كلّ هذه اللقاءات. ولكن الأهمية برأيي تكمن في كونه يشمل 27 دولة منضوية في إطاره، وبرغم الصعوبات اللوجستيّة والأمور التقنيّة المعقدة المترتّبة على ذلك، إلّا أنّ إمكانيّة التأثير كبيرة للغاية بحُكم عدد الدول المنضوية تحته. يُضاف إلى ذلك أنّ الاتحاد الأوروبيّ ما يزال -حتى اللحظة- من بين المؤسّسات الدَّولية القليلة المُتمسّكة بالاتفاقيات والأعراف الدوليّة في حلّ الصراع، بما يتضمّن حلّ الدولتيْن في حدود 1967، وتثبيت القدس كعاصمة للدولتيْن.
إذًا أين تكمن التحديات في علاقتنا مع الاتحاد الأوروبيّ؟
في ما يعتبره مُمثّلو هذه المؤسّسة قاسمًا "مُشتركًا" بين دول الاتحاد وإسرائيل، بالإشارة إلى القيم الديمقراطيّة ومبادئ حقوق الانسان والانضواء ضمن المعسكر الغربيّ، لا سيما بعد ما عاناه اليهود في أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية.
في الإعجاب الأوروبيّ بالإنجازات الإسرائيليّة في مجالي التكنولوجيا والابتكارات، الذي أفرز استثماراتٍ كبيرةً جدًّا بقيمة 100 مليارد يورو لسبع سنوات، ابتداءً من العام 2021 في إطار خطة "Europe Horizon" لدعم البحث والابتكار لمواجهة التحديات العالمية الراهنة في مجالات متنوّعة، منها: المناخ والصحّة والغذاء والطاقة والمياه، على أن تشمل طواقم أكاديميّة ومهنيّة تتشكّل من دول عدّة. كما أنّ هناك مفاوضات جارية بغية التعاقد بخطة شبيهة أخرى وهي "Horizon 2020" ترفضها الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة لعدم تضمينها المستوطنات في الضفّة الغربيّة، بخلاف الحكومة السّابقة التي أقرّتْ "Europe Horizon" ووجدت طريقة "لتعويض المستوطنين" إثرها.
في الاقتصاد والتجارة، إذ أنّ إسرائيل تعتمد على دول الاتحاد بـ 60٪ من استيرادها السنويّ.
في العمل الدؤوب والمتواصل الذي يؤدّيه مُمثلو إسرائيل في هيئات الاتحاد، وتحديدًا في الأعوام الأخيرة الماضية، لإقناع مُمثليه بتبني موقفها بخصوص الشّأن الإيرانيّ، وبتحييد الموضوع الفلسطينيّ، وهما أمران لم يعودا يشكّلان سويًّا أكثر من 10٪ من الملفات المطروحة بينهم وبين الاتحاد الأوروبيّ- وفقما يقول مصدر إسرائيليّ رفيع. وفي هذا السّياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّهم نجحوا بالأمريْن إلى حدّ كبير:
في الشأن الإيرانيّ: رغم إصرار الاتحاد على المضيّ قدمًا بتوقيع خطة JCPOA، إلّا أنّ ما كُشف عنه من دعم إيرانيّ لروسيا في حربها على أوكرانيا في آب 2022، قلب الآية وأبعد فرص إبرام هذه الخطّة بشكل شبه كامل، وهو الأمر الذي يتماشى مع الرغبة الإسرائيليّة، مع وجود فارق أساسيّ هو عدم رؤية الاتحاد لبديل آخر أقلّ ضررًا من وجهة نظرهم- في هذه المرحلة!
في مسألة تحييد الشّأن الفلسطينيّ: رغم الالتزام الأوروبيّ بالاتفاقيّات والأعراف الدَّولية كما أسلفنا، واستثمار الجهود والموارد الكبرى في هذا الجانب، إلا أنّ ثمّة رفضًا إسرائيليًا قاطعًا لطرح هذه القضيّة أو التعاطي معها، مُتسلّحين أمام الاتحاد بذرائع مختلفة، منها: ضعف السّلطة الفلسطينيّة، وعدم شرعيّتها كونها لم تُجرِ انتخابات منذ أكثر من سبعة عشر عامًا، وحتّى لو أجريت الانتخابات فثمة قلق من البديل المتمثّل بصعود حركة "حماس" إلى سدّة الحكم، وأخيرًا علاقاتها القريبة مع دول الخليج في إطار "اتفاقيات أبراهام" وأفق تعزيزها لتتضمّن المغرب، وربما السعوديّة في مرحلة لاحقة.
في غياب الدور الفلسطينيّ المنهجيّ في الحوار مع الاتحاد، وطرح المواقف والضغط على الالتزام بها، والتشبيك وتعزير العلاقات مع الدول الأعضاء، والتصدّي المُستمرّ للمساعي الإسرائيليّة المتواصلة لحسم المواقف لصالحها.
في الخلاصة، لا شكّ في وجود نوايا إيجابية لدى الاتحاد الأوروبيّ بأعضائه الـ 27 -وتحديدّا إيرلندا وبلجيكا ولوكسمبرغ- وبمُمثّليه الناشطين منذ أعوام طويلة بغية دفع عملية السّلام قدمًا وإنهاء الصراع، وآخرها المساعي الحثيثة لإعادة إحياء "مبادرة السّلام العربيّة" بالتعاون مع السّعودية في سبتمبر من العام الماضي في اجتماع الوزراء في نيويورك لمناسبة عشرين عامًا على إطلاقها، ومن ثمّ في 13 فبراير هذا العام في لقاء بين الاتحاد الأوروبي والسّعودية وجامعة الدول العربيّة. إلّا أنّ الرفض الإسرائيليّ "الاستقوائيّ" في ظلّ حكومات نتنياهو المتعاقبة، وخصوصًا في الأعوام الأخيرة الماضية، لا يُبشّر خيرًا على الإطلاق.
ويبقى السّؤال: أين نحن من كلّ ما يحدث؟ هل من استراتيجيّة للتعاطي مع مُجريات الأمور كأصحاب شأن مباشرين؟ وحتى متى سنبقى في حالة من حرب الاستنزاف الداخليّة التي تضعف موقفنا ولا تزيد من مكانتنا بنظر العالم؟ الوقت يمضي والمناخ الجيوسياسيّ يتغيّر، وهذا التغيير ليس بالضرورة في صالح الفلسطينيّين. يجب أن نعي أنّ مقولات وشعارات "عدالة القضيّة"، و"المطالبة بالالتزام بالاتفاقيّات والأعراف الدَّولية"، و"التهديد بالتوجّه إلى المحافل الدَّولية"، لم تعد كافيةً في هذه المرحلة.. فهل هناك من يصغي؟!