تداخل الاقتصاديْن "الفلسطيني والإسرائيلي “| فجّر الحرب أم نتج عنها؟!
الأدبيات العلمية في مجال الاقتصاد، تتناول دائمًا موضوع العلاقة ما بين الصراعات والحروب والاقتصاد. وهنالك من يرى بأن الأوضاع الاقتصادية السيئة والتي تؤول إلى البطالة، ومحدودية الدخل تؤدي نوعا ما إلى حالة من الإحباط، أو الشعور بعدم الرضى لدى بعض شرائح المجتمع، وبالتالي انخراطهم في الأعمال السياسية.
وآخرون يروْن بأن الحروب هي من تؤدي إلى الأوضاع الاقتصادية الهشّة، وهنا أريد أن أتطرق إلى جانبين: الحالة الوضع الراهن، والسياق التاريخي للعلاقة الاقتصادية ما بين الفلسطينيين وإسرائيل.
وفي النظر إلى الجانب الأول، نلحظ أن هذه الحرب كانت لها إسقاطات قاسية على الاقتصاد الإسرائيلي؛ بحيث أن الدخل القومي انخفض في الربع الرابع من العام 2023 بنسبة 5.7%، وفي الحسابات السنوية لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، وفي الحسابات السنوية وصل الانخفاض إلى 19%.
وإذا ما تعمّقنا في هذا الانخفاض الربعي للدخل القومي، فقد ساهم قطاع الاستثمار بالحد الأكبر للانخفاض بنسبة 26%، ورغم أن الاستهلاك الحكومي ازداد في هذا الربع بنسبة 16%، إلا أن نسبة الاستيراد إلى إسرائيل انخفضت إلى 12%.
واستنادًا إلى الإحصائيات نجد أن "وزارة الدفاع" من أكثر الوزارات التي استفادت من زيادة النفقات الحكومية، حيث ارتفعت ميزانيتها إلى 29 مليار شيقل خلال هذا الربع. أمّا قطاع السياحة فكان أكثر القطاعات تضررًا. وفي الحسابات السنوية في العام 2023 انخفضت وتيرة النمو الاقتصادي من 2%، إلى 6.5% في العام السابق 2022، وهذا بطبيعة الحال يُترجم إلى انخفاض في الدخل القومي للفرد الذي انخفض بشكل ملحوظ.
كان لهذه التغيرات على المشهد الاقتصادي الإسرائيلي إسقاطات على الميزانية؛ فبطبيعة الحال انخفضت الإيرادات الحكومية بنسبة 2.1% في عام 2023، وهذا زاد من العجز في الموازنة في عام 2023 إلى 78 مليار شيقل، أي 4.2% من الدخل القومي. كل هذا الارتفاع في النفقات الحكومية، كان من أجل "وزارة الدفاع"، وبطبيعة الحال لدعم النازحين من الشمال والجنوب، وأيضا لتعويض الخسائر في القطاع الخاص.
ولكن الأهم من ذلك، هو أن هذه التغيرات سوف يكون لها ترجمة على الدين السيادي بإسرائيل، الذي سوف يرتفع من 1.03 ترليون شيقل في العام 2022، إلى 1.12 ترليون شيقل في 2023، أي ارتفاع في الدين السيادي العام إلى 62%، وهذا بالطبع ترجم في قانون الموازنة الذي تم تعديله في الآونة الأخيرة، ليسمح للحكومة بزيادة تصل إلى نحو 70 مليار شيقل إضافية لموازنة 2024.
ووفقا لهذه الزيادة، فإن العجز في العام الحالي 2024، سوف يصل إلى نحو 130 مليار شيقل؛ أي 6.6% من الدخل القومي. وكل هذه المعطيات تترجم على أرض الواقع من حيث قراءة سوق العمل؛ فارتفعت البطالة الموسعة لتصل إلى نحو 10% في شهر نوفمبر 202، وهذه مجمل تكلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي التي تجاوزت كل حد، والتي كانت نفقاتها أكبر بكثير من اجتياح نيسان عام 2002، والذي بسببه تراجع الاقتصاد الإسرائيلي بسبب تراجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية، ولكن إسقاطات هذه الحرب كانت أوسع وأعمق.
وإذا ما نظرنا الى الاقتصاد الفلسطيني، نجد أنه في عام 2023 انخفض الدخل القومي بنسبة 6%، وتراجع الناتج المحلي في قطاع غزة بنسبة 23% وفي الضفة الغربية بنسبة 2%. هذا الانكماش كان موزعًا على جميع القطاعات الإنتاجية في فلسطين، بحيث أن قطاع الخدمات تراجع بنسبة 22% بينما تراجع قطاعا الإنشاءات والزراعة بنسبة 11% لكل منهما.
وإذا ما أخذنا الوضع القائم من حيث الأداء الاقتصادي في الضفة الغربية مقارنة بقطاع غزة، ومن أهم ما يجب الانتباه له، أنه منذ فترة الحصار في عام 2007، انخفض الدخل القومي للفرد في قطاع غزة بالأسعار الثابتة من 2300 دولار إلى نحو 944 دولارًا، بينما في الضفة الغربية، ارتفع من 2000 دولار إلى 4290 دولارًا. هذه الفجوة ناتجة عن الحصار الاقتصادي لقطاع غزة، والانخفاض في الناتج المحلي للفرد بنسبة 2.5% سنويًا.
ولو قارنّا الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، نجد أنه في عام 1975 كان الناتج القومي للفرد الفلسطيني مقارنة بالإسرائيلي 15%، لكنه انخفض في عام 2022 إلى7%، وإن قمنا بقراءة ومراجعة التاريخ الاقتصادي والسياسي، نجد أن هنالك تغيرات سياسية وإقليمية، أدت إلى هذه الفجوة ما بين الاقتصاديْن الفلسطيني والإسرائيلي؛ أولها التبعية وسياسة العصا والجزرة، التبعية بمعنى أنه على مستوى سوق العمل. منذ عام 1967 أعطت السوق الإسرائيلية فرصة بنحو 20%– 25% من القوى العاملة الفلسطينية للعمل داخل إسرائيل، والتي ساهمت بنحو 20% من الدخل القومي الفلسطيني.
في فترة الانتفاضة الثانية 2000 تم طرد 90% من العمال، ولم يبق سوى 30 ألف عامل من أصل 150 ألف عامل. في الأزمة الأخيرة طردت إسرائيل نحو 150 ألف عامل من أصل 170 ألف عامل، وهذه التبعية لها إسقاطات سلبية على الاقتصاد الفلسطيني؛ لأنها تتعامل معه بسياسة العصا والجزرة، وعلى المستوى المنهجي تتعامل معه بسياسة "الاقتصاد الإثني"، بمعنى أنها تتعامل مع الاقتصاد الفلسطيني وكأنه "يتبع لها جغرافيًا".
ولأن الاقتصاد المركزي في تل أبيب، والمدن اليهودية الكبرى تتحكم في تثبيت الأسعار، ولا يوجد للسلطة الفلسطينية عملة نقدية، هذا يعني بالضرورة أن اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة، يتحول إلى اقتصاد هامشي يعطي خدمات قوى عاملة للاقتصاد الفلسطيني، وهذه سياسة التبعية نفسها التي تنتهجها إسرائيل مع الفلسطينيين في داخل أراضي الـ 48.
ومن ضمن سياسات التبعية التأثير على مستوى القطاعات، حيث نجد أنه في شهر سبتمبر من العام 2023، كان هناك 100 ألف عامل فلسطيني يعملون في قطاع الإنشاءات، وفي شهر ديسمبر من العام نفسه تم طردهم وإبقاء 6 آلاف عامل فقط. فيما كان في قطاع الزراعة 10 آلاف عامل في شهر سبتمبر 2023، ولكن انخفض هذا العدد في شهر ديسمبر إلى 1000 عامل فقط، وفي قطاع الزراعة كان هناك 21 ألف عامل في شهر سبتمبر من العام 2023، لكنه انخفض إلى 100 عامل فقط، في شهر ديسمبر من العام نفسه.
من الأهمية بمكان ملاحظة أنه منذ نشوب الحرب وحتى الآن، هنالك عدة سياسات لاستيراد عمال من عدة دول مختلفة للعمل في قطاع الإنشاءات الذي أغلقت فيه ما نسبته 40% من الشركات منذ نشوب الحرب وحتى اليوم، ما أدى الى خسارة نحو 50% من الاستثمار في هذا القطاع.
وأكاد أجزم أنه لن يكون هنالك سياسة بديلة لإسرائيل عن إعادة العمال الفلسطينيين إلى سوق العمل الإسرائيلي، فتاريخيًا هذه المحاولة كانت في عام 2002 وفشلت، والآن هذه المحاولة موجودة وموضوعة على الطاولة، ولكنها سوف تفشل؛ لأن العمال الفلسطينيين هم أكثر مهارة في مجال البناء والزراعة، وأقل تكلفة بكثير من العمال الأجانب.
ونخلص القول إلى إنه من أجل إبقاء السلام، والتطلع للمستقبل لوضع سياسة أكثر هدوءًا؛ يجب النظر بإمعان إلى حالة الشعب الفلسطيني المعيشية التي يعاني منها، وهذا يتطلب إزالة الحواجز وإعطاء الفرصة للاقتصاد الفلسطيني لأن يكون أكثر تنوعًا، وألا يكون فقط تابعًا للاقتصاد الإسرائيلي، ويجب أن يكون هنالك إزالة ما يسمى بـ"الغلاف الجمركي الموحد"، لأنه لا يخدم الاقتصاد الفلسطيني، ويجب أن يكون تحت سيطرة فلسطينية كاملة.