لا بديل عن وحدة الموقف الفلسطيني

نقلت وكالة (رويترز) أخيرًا أن لقاء المصالحة بين حركتي فتح وحماس الذي كان مقررا عقده في الصين منتصف حزيران الجاري، تأجل من دون تحديد موعد بديل! مرّ الخبر دون اكتراث من المواطنين والمتابعين، الذين لم يتوقع أي منهم خروج هذه اللقاءات بأي نتيجة عملية لصالح هدف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.

يستطيع كل طرف أن يحشد ذرائعه وحججه لمحاولة تبرئة نفسه وإلقاء اللوم على الطرف الآخر، واتهامه بالمسؤولية عن تعطيل مسيرة المصالحة الفلسطينية، لكن ذلك لن يغير من النتيجة العملية، والحقيقة الماثلة أمام عيون الجميع، وهي أن النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته وتشكيلاته وتلاوينه فشل فشلا ذريعا في الاستجابة للمهمات المركزية التي تفرض نفسها وهي: حماية الشعب من حرب الإبادة والتهجير والتدمير، وتقليص معاناة الناس، وبخاصة في قطاع غزة، مما يتعرضون له من أهوال وفظائع غير مسبوقة. كما أن هذا النظام الذي نتحدث عنه (منظمة وسلطة وفصائل واتحادات شعبية ومؤسسات مجتمع مدني) ومؤسساته وقياداته على اختلاف مستوياتها ومسؤولياتها، لم ينجح في التصدي للمخاطر التي تحدق بالقضية وبحقوق الشعب الفلسطيني، كان ذلك في فترات الهدوء النسبي قبل الحرب حيث فشل النظام في الاستجابة لاحتياجات الناس وتطلعاتها لإنهاء صفحة الانقسام البغيض من حياة الشعب، وما زال الوضع على حاله في الظروف الأكثر صعوبة بعد الحرب.

على امتداد سنوات الانقسام الطويلة (17) وقبلها بقليل (حوارات السجون ووثيقة الوفاق الوطني)، طافت جلسات الحوار كثيرا من المدن والعواصم العربية والعالمية: القاهرة، ومكة، والرياض، والدوحة، وصنعاء، ودمشق، وبيروت، والجزائر، واستانبول، وموسكو وبكين فضلا عن رام الله وغزة. نوقشت كل العناوين والتفاصيل، المبادئ والثوابت والمحددات. وصيغت الاتفاقيات، ولم يُنفّذ منها شيء، وظلت المسوّدات والصيغ حبيسة الأدراج والرفوف. حتى في أحلك الظروف وحين وضعت "إسرائيل" خلافاتها جانبا وذهبت إلى حكومة طوارئ موحدة، ظل الفلسطينيون منقسمين في أدائهم السياسي كما في أدائهم الميداني وخطابهم لشعبهم وللعالم.

حملت أحداث السابع من أوكتوبر وتداعياتها تغيرات عاصفة في مكانة القضية الفلسطينية، ومواقف العالم على مستوى الحكومات والمؤسسات والشعوب، ويمكن إجمال ذلك بالعناصر التالية:

  • فشل المقاربة الإسرائيلية التي سعت لتكريس واقع أن الشأن الفلسطيني هو شأن إسرائيلي محض، ولا دخل للعالم به. والحل يكون فقط خلال المفاوضات الثنائية المباشرة، وهي مفاوضات غير قائمة بالطبع، أي أن لإسرائيل الحق بحكم تفوقها العسكري بتحديد طبيعة الحقوق التي يمكن منحها للفلسطينيين، وتقتصر على الجوانب المعيشية والاقتصادية ولا علاقة لها بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

  •    كشفت الحرب مدى الخلل الذي يعانيه النظام الدولي ومؤسساته بقيادة الولايات المتحدة، من حيث ازدواجية المعايير، ومخالفة المبادئ الأساسية للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وقيم العدالة والحرية حين يتصل الموضوع بفلسطين وإسرائيل.

  •   أعادت الحرب كشف الطبيعة الإجرامية لإسرائيل وجيشها ومؤسساتها، حيث ثبت أن المجازر الجماعية ليست مجرد حوادث متفرقة في تاريخ حروب هذه الدولة، بل هي أداة رسمية معتمدة في تنفيذ سياساتها، مع قناعات راسخة بأنها في منأى عن المساءلة والعقاب.

  •    أظهرت الحرب مدى ضعف النظام العربي وتبعيته، وتميز الموقف الرسمي الفلسطيني هو الآخر بطابع أقرب إلى الشلل والانتظار والعجز عن التأثير في مجرى الأحداث.

  •  بروز دول ومجموعات دولية ترفض التسليم بهيمنة الرؤية الأميركية، فعبّرت عن حقها في أن تبدي رأيها في ما يجري على مستوى العالم وهنا برزت أدوار دول مثل جنوب افريقيا، والبرازيل وتشيلي وكولومبيا ونيكاراغوا، واسبانيا وايرلندا بالإضافة لمجموعة بريكس.

  • أعادت تداعيات الحرب تظهير القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب عانى طويلا من القهر والاحتلال والظلم، وأصبحت القضية رمزا للعدالة وحقوق الإنسان، كما في الثورات الطلابية والتظاهرات التي عمّت عواصم الغرب ومدنه الرئيسة، والموجات العارمة للتعاطف مع فلسطين وقضيتها.

  • أظهرت الحرب إمكانيات مؤثرة وغير متوقعة لقوى إقليمية باتت مهمة مثل حزب الله وجماعة أنصار الله في اليمن التي بات كل منها لاعبا مركزيا في الصراع.

أما إسرائيليا فكشفت الحرب عن كثير من نقاط الضعف والهشاشة سواء في طبيعة النظام السياسي الذي يخوض حربا طويلة وشاقة للمرة الأولى في ظل انقسامات حادة، أو في الأداء العسكري مع الفشل في تحقيق أهداف الحرب، وحسم المعركة سياسيا كما اعتاد على حسمها عسكريا. ولعل هذه النتائج ستعيد طرح أسئلة حساسة حول مستقبل إسرائيل ومكانتها المفترضة لبناء نظام إقليمي جديد.

اللافت أن إسرائيل ومعها أطراف إقليمية ودولية باتت تعدّ نفسها لما يسمى "اليوم التالي"، فإسرائيل تسعى لمواصلة فرض سيطرتها على غزة ومستقبلها المدني والسياسي والسلطوي، وما لم تحققه بالقوة العسكرية تريد تحقيقه بالضغط السياسي والابتزاز، وهذه الرؤية تنسحب على ما يجري في الضفة حيث تسعى حكومة اليمين الاسرائيلي لحسم الصراع بالقوة المسلحة وتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، أما الأطراف الإقليمية والدولية فأكثر ما يهمها هو الأمن والاستقرار، وليس حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهكذا فإن القادم هو الأخطر على مستقبل القضية الوطنية.

الفلسطينيون هم الأكثر تأثُرا بسؤال اليوم التالي ورغم ذلك فهم حتى الآن لم يصلوا لرؤية موحدة، لكن الأوان لم يفت على ذلك، فالتحديات الماثلة أمامنا لا تقل خطورة عن فصول وتفاصيل الحرب الدموية. وما زال بالإمكان توحيد الموقف الفلسطيني على قاعدة الاتفاق على برنامج طوارئ، اي برنامج قواسم مشتركة مؤقت يقوم على أولوية إعادة الإعمار ولملمة جراح غزة والتصدي لمخططات تصفية الحقوق الوطنية في الدولة والعودة وتقرير المصير، وتشكيل حكومة تحظى بأكبر قدر ممكن من التوافق، بمرجعية وطنية موحدة من جميع الفصائل. طبعا لن تستجيب القيادات العليا تلقائيا لهذه المطالب لذلك يتوجب الضغط عليها بكل السبل الجماهيرية والسياسية والإعلامية المتاحة والممكنة.

نهاد أبو غوش

كاتب وصحفي، وباحث في مركز تقدم للسياسات وعضو المجلس الوطني الفلسطيني.

رأيك يهمنا