مأساة غزة واليسار العالمي
"أنا على وشك الشروع في عمل احتجاجي متطرف، ولكن بالمقارنة مع ما يعانيه الناس في فلسطين على أيدي مستعمريهم، فهو ليس متطرفًا على الإطلاق. وهذا ما قررت طبقتنا الحاكمة أنه سيكون طبيعيًا". هذه كانت رسالة الجندي الأمريكي آرون بوشنيل، ابن الـ 25 عاما، الذي أحرق نفسه في شهر شباط احتجاجًا على ممارسات حكومته ودعمها غير المشروط لإسرائيل في قمعها العنيف للشعب الفلسطيني.
ما فعله آرون بوشنيل، على الرغم من طبيعته القصوى ونهايته الحزينة، لم يكن العمل الاحتجاجي الوحيد في الولايات المتحدة خاصة والدول الغربية عامة. بل تتوالى هذه الاحتجاجات ويزداد زخمها منذ بدأت الهجمة الإجرامية على غزة. تقودها في الأساس التنظيمات اليسارية في الدول الغربية، وعلى رأسها التنظيمات الطلابية الأمريكية.
ما يميز هذه التنظيمات طابعها الإنساني الأممي الحقيقي، الذي تشترك به تنظيمات عربية وفلسطينية أمريكية، تنظيمات يهودية يسارية، تنظيمات من الأمريكيين من أصول أفريقية، حركات حماية البيئة، وغيرها من التنظيمات التي تشكل بمجموعها تحالفا حقيقيا واسعا، متعدد الثقافات، والأعراق، والأديان، ترشده مبادئه الإنسانية. قادت هذه التنظيمات الاحتجاجات منذ اليوم الأول تقريبًا ضد هذه المذبحة، التي تتواطأ معها، بل وتشترك بها، حكومات دولهم.
هذه الاحتجاجات التي انفجرت وأدت إلى موجة الاعتقالات المحمومة هذا الأسبوع تبرهن مجددًا على حدة الشرخ بين النخب السياسية والمالية في الغرب، التي ما زالت تدعم إسرائيل بكل عنف وشراسة، وبين المجتمعات العادية في هذه الدول، التي تنظر إلى ما يحدث في غزة برعب.
لم أذكر النخب الأكاديمية في هذا السياق، لأني أعتقد أنها في غالبيتها العظمى لا تقف مع النخب السياسية والمالية الحاكمة. هذا ما نراه في أغلب الجامعات في العالم الغربي، على الرغم أن عددًا قليلًا من هؤلاء الأكاديميين يتبوأون دورا قياديا في هذا الحراك.
نحن نعيش لحظة نادرة ومحورية في تاريخنا، تحولت فيها القضية الفلسطينية من قضية محلية إلى قضية تحتل موقع الصدارة في أجندة السلام والعدل الدولية. فقد أصبحت قضيتنا رمزا للظلم في العالم، وأوضح مثال على نفاق الدول الغربية ومعاييرها المزدوجة، بل ومشاركتها بوضوح في جرائم لا تغتفر.
كل من يراقب ما يحدث في اليسار العالمي، وبالذات اليسار في الولايات المتحدة، في العقدين الأخيرين يعرف أن هناك تحولًا عميقًا فيه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. هذا التحول لا يقتصر فقط على التعاطف مع الفلسطينيين ومعاناتهم. كما لا ينظر إلى القضية الفلسطينية على أنها صراع بين شعبين فقط، كما تصر على فهمه أغلب قيادتنا السياسية. بل يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير ويراها قضية استعمارية كلاسيكية، أسوة بالاستعمار الأبيض لجنوب أفريقيا وأمريكا واستراليا وتاريخه الدموي الإجرامي.
أريد أن أشدد على هذه النقطة مرة أخرى، ما نراه يحدث هو أعمق بكثير من مجرد احتجاج على سياسة إسرائيل نحو الفلسطينيين، أو على شراسة المذبحة الهائلة التي تقوم بها في غزة. هذه القطاعات الشعبية الكبيرة، أصبحت تشك في القصة الإسرائيليّة للتاريخ مذ نشأت، وتتعامل مع الفكر الصهيوني من أساسه بصفته فكرًا عنصريًا استعماريًا غير شرعي.
من يصل إلى هذه الاستنتاجات لن يعود القهقرى، ولن ينظر مرة أخرى إلى إسرائيل إلّا من منظار تاريخها الاستعماري الدموي الحقيقي. مشكلة إسرائيل مع هذه القطاعات الواسعة من الناس أنهم بدأوا يرون حقيقتها كما هي، من دون الأقنعة التي لبستها أمامهم طوال تاريخها. هذا هو مدى أزمة إسرائيل في المجتمعات الغربية، ولن تحلها اعتقالات الطلاب، ولا إسكات أصوات المحتجين، ولا طرد أساتذة الجامعات لمجرد أنهم عبّروا عن رأيهم، ولا حتى وقف الحرب الآن. هذه مرحلة الـ"لا عودة" فيمَا يتعلق بتعامل هذه التنظيمات، والجيل الشاب الذي يتبعها بغالبيته، ورؤيتها لإسرائيل وتاريخها وسياساتها.
تحدث هذه التغييرات في أغرب الظروف وأعجبها. ففي العقود الأخيرة تُركت القضية الفلسطينية بلا قيادة حقيقية ومن دون رؤية واضحة للمستقبل، بالذات بعد انهيار اتفاقية أوسلو. كذلك بعد هذا الانهيار، فقدت قضيتنا بُعدها العربي، الذي طالمَا كان مهمّا للقضية الفلسطينية، وأصبحت معظم الدول العربية تتسابق على إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، في تعارض تام مع رغبات شعوبها. كذلك تحولت القيادة الفلسطينية الكلاسيكية من قيادة مناضلة ذات مسلّمات واضحة، إلى قيادة سلطة فاسدة وخانعة، تخدم إسرائيل ومشاريعها. كذلك تحولت قيادتنا نحن، فلسطينيي الداخل، من قيادة مناضلة مناهضة للصهيونية بشكل حقيقي وعميق، إلى قيادات تتسابق على كيف تشترك أو "تؤثر" في السلطة. على الرغم من هذا تأبى "عنقاء رماد" الحق الفلسطيني إلا أن تقوم من بين الأنقاض لترفع صوتها من جديد.
هذه المتغيّرات تدلنا أننا على عتبة حقبة جديدة وحاسمة بالنسبة لقضيتنا، لا نعرف كيف سوف تنتهي. مأساتنا في غزة هي أكبر دليل على شراسة المرحلة وخطورتها. مراحل الانتقال والتغيير العميق مليئة بالإمكانات، لكنها أيضا محفوفة بأشد المخاطر وأقساها. ما يحدث في العالم الغربي لن يغيّر سياسات هذه الدول بين ليلة وضحاها، فقد يأخذ هذا عقودا طويلة، مع أنها حتما سوف تتغير في مرحلة ما. كذلك ما نراه في المجتمع الإسرائيلي نفسه وانزلاقه التام إلى أحضان أحزاب اليمين الديني الفاشي والمتطرف، لا يبشر بالخير في المستقبل القريب. فقد تحاول إسرائيل أن تفعل مع الفلسطينيين في الضفة، حتى مع فلسطينيي الداخل، ما تحاول تحقيقه في غزة. نرى البوادر لهذا بشكل واضح!
ما نحتاجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو رؤية سياسية ترشدنا نحو حل سياسي مستقبلي معقول، يعتمد على أسس المساواة والعدل والإنسانية والتعامل الواضح مع التاريخ. أي ما نحتاج هو قيادة حقيقية تطرح مشروعًا جريئًا مبنيًا على الأسس الإنسانية التي تستطيع أن توحّد من ورائها جميع الناس، مع تعدّد انتماءاتهم، ومعتقداتهم، وآرائهم. هكذا فقط نستطيع أن نستمر في تعزيز وتكثيف التعاطف الشعبي الدَوليّ غير المسبوق مع قضيتنا، بل وفي تحويله إلى ذخر سياسي ملموس وعملي يؤدي إلى تغيير واقعنا السياسي جميعا ويدفعنا إلى مستقبل أفضل. هذا لم يعد حلما، بل حقيقة تتكون أمام أعيننا، ولنا دور حاسم بها.
الصورة: لإيل وود -موقع "خزائن".
بروفيسور سليم زاروبي
باحث ومحاضر فلسطيني متخصص في مجال فيزياء الكون وتاريخ تكوّن الكون. تتمحور أبحاثه حول تكوّن وتطوّر البنية المعقدة في الكون منذ نشأته وحتى الآن. مؤلف كتاب "في البدء: فيزياء، فلسفة وتاريخ علم الكون"