مأزق التخبط السياسي ومآلات غياب الحلول
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور المجازر التي ترتكب بحق سكان قطاع غزة، بعض المجازر ارتكبت في مناطق تعتبر "آمنة" للمدنيين، بينما عمقت وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية حجم المأزق الأخلاقي للحرب التي يخوضها الاحتلال، وأثرها على حاضرها ومستقبلها، وعلى الحكومات والدول الداعمة لها.
تعيش إسرائيل اليوم تهديداً متنامياً لصورتها وسرديتها على الصعيد الخارجي، وتناقضاً سياسياً مركباً على الجبهة الداخلية أدت في هذا الأسبوع إلى تظاهر آلاف الإسرائيليين ضمن مدينة تل أبيب، مطالبين بإجراء انتخابات مبكرة وإبرام صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس، المظاهرة التي اعتبرت الأضخم بعناوين الصحف تأتي بعد أن كشفت إسرائيل عن فشلها بأهم ركائز العقيدة العسكرية التي كانت تفخر بها، والتي كانت على رأسها "الإنذار المبكر" الذي فشل في عملية السابع من تشرين، و"الحسم" وهو الادعاء بقدرتها على خوض حروب قصيرة وحاسمة، تنتهي بتدمير "العدو"، من ثم احتلال المزيد من الأراضي لبناء المستوطنات.
هذا الفشل مستمر على شكل حرب إبادة جماعية منذ 269 يوماً، ما يقارب التسعة أشهر، أغلب ضحاياها من النساء والأطفال، دون أي بوادر واضحة حتى الآن لوقف إطلاق النار، خاصة بعد الأهداف التي وضعها رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" لوقف الحرب والتي ما يزال على رأسها القضاء على حماس، على الرغم من تصريح المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري في مقابلة مع قناة 13 الإسرائيلية، "الاعتقاد أن بالإمكان تدمير حركة حماس وإخفائها هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين، حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها"، يأتي هذا التصريح بعد ما يقارب الثلاثة أشهر على أغرب تصريحات نتنياهو أثناء اجتماعه مع وزراء حربه في 7/أبريل 2024 والذي أعلن فيه "بأن اسرائيل على بعد خطوة من النصر، ولكن الثمن الذي يجب دفعه مؤلم ومفجع".
تناقضات سياسية يدفع ثمنها المدنيين في غزة
التناقض السياسي الداخلي الإسرائيلي بالإضافة للفشل العسكري، مع استمرار الحرب، يدفع ثمنه أهالي غزة والبنية التحتية للقطاع، التي راح ضحيتها حتى الآن 37658 شهيدًا حتى الآن بحسب الجهاز المركز للإحصاء الفلسطيني، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، بينما أكدت منظمة "أنقذوا الاطفال" البريطانية أن 21 ألف طفل في غزة في عداد المفقودين، هذه الأرقام المرعبة رافقها استهداف كامل لما يقارب 67% من البنية التحتية للقطاع، وسط تحذيرات أعلن عنها المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة حول تهديدات المجاعة التي تشمل بشكل مباشرة حياة أكثر من مليون طفل في القطاع، بينما 3500 طفل باتوا الأقرب للموت بسبب انعدام الغذاء والتطعيمات.
اعتماد الحل العسكري كوسيلة وحيدة لإنهاء الحرب
اعتماد الضغط العسكري الإسرائيلي كحل وحيد لإطلاق سراح الأسرى، جعل من إسرائيل عبئاً سياسياً وأخلاقياً، خاصة أن أهم عمليات تحرير المحتجزين لم تكن ضمن احتمالات الخيار العسكري، بل تمت ضمن صفقة تبادل شملت إطلاق سراح 80 محتجزاً إسرائيلياً من النساء والأطفال، مقابل 240 أسيراً فلسطينياً من السجون الإسرائيلية من النساء والقاصرين، بينما آخر عمليات تحرير المحتجزين ضمن الخيار العسكري كانت ضمن مجزرة النصيرات التي أطلق فيها 4 محتجزين إسرائيليين مقابل 280 شهيداً وأكثر 689 جريحاً، اتهم فيها الإعلام الحكومي في قطاع غزة، تورط الإدارة الأميركية باستخدام الرصيف العائم لتقديم الدعم الأمني والعسكري لتنفيذ المجزرة.
التغير بالمشهد السياسي وآثار الحركات الطلابية ضد الاحتلال
المأساة الإنسانية، التخبط السياسي، التناقض بين الأهداف وما حققه الاحتلال الاسرائيلي حتى الآن، مع انتشار مشاهد القتل والتدمير، والرفض المستمر لاحتمالات وقف إطلاق النار أو الهدنة الإنسانية، عمق المأزق الدبلوماسي الدولي لإسرائيل، مع تراجع تدريجي ومستمر للدعم الدولي لإسرائيل، خاصة بعد دعوى محكمة العدل الدولية، الحرج، لتكون المسؤولية الأخلاقية والسياسية وحتى الحقوقية أعمق وتسبب حرجاً دولياً خاصة بشكل العلاقة الخاصة التي كونتها بعض الدول مع إسرائيل تحديداً في الامتيازات التي تحصل عليها بشكل مباشر، وهو الذي انعكس على الأرض ولأول مرة، ربط جيل كامل في أوروبا وأمريكا قضية حريته الشخصية بقضية فلسطين، وهذا ما يجب دراسته بعد الحرب، كيف هدد المأزق الأخلاقي الذي دخلته إسرائيل عن طريق خياراتها السياسية والعسكرية، بدد صورتها وسرديتها الدولية، وهو الأمر الذي دفع الحكومات الأوروبية والأميركية لقمع مظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار، ضمن موقف متضامن مع القضية الفلسطينية، والتي كانت أشد أشكالها عمقاً، وأكثر مظاهرها تهديداً لمستقبل الخطاب الاسرائيلي، الاحتجاجات الطلابية ضمن جامعات الولايات المتحدة، الذين تظاهروا في الجامعات الأميركية ليسوا عمالاً، بل هم يمثلون بصورة مباشرة مستقبل البلد الذي ينتمون إليه، وهذا ما شكل تهديداً حقيقياً دفع إدارات الجامعات لاستدعاء الشرطة وفض الاعتصامات وإنهاء الاحتجاجات بالقوة، بينما الخطر الحقيقي لهذا التحول العميق في المشهد العالمي، خاصة على الصعيد الطلابي دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتخصيص فيديو مستقل لوصف تحركات الطلاب بمعاداة السامية مطالباً بإدانة سلوك الطلاب الداعمين للقضية الفلسطينية، مستخدماً كرته الوحيد والأخير ضمن خطاب التظلم، "كون من يدعو لوقف الحرب هو يدعو بشكل مباشر لإبادة إسرائيل"، مطالباً بالمزيد من القمع.
بينما ما يشكل اليوم اختراقاً عميقاً في السياسية الدولة، هو الاعتراف المتتالي لدول أوروبية بعضها ضمن الاتحاد الأوروبي، باعتراف سلوفينيا اسبانيا وايرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية، وهو ما يمهد لتفكك الموقف الأوروبي الداعم لإسرائيل، خاصة بعد أن أصبح مجموع الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية 13 دولة من أصل 27 دولة يضمها الاتحاد الأوروبي، ليبلغ العدد الإجمالي للدول التي تعترف بفلسطين 164 دولة من أصل 193 الأعضاء في الأمم المتحدة.
هذا ما سوف نحمله معنا جيداً بعد الحرب، خاصة في المستقبل الذي حدده التخبط السياسي الإسرائيلي، وخيارات إسرائيل العسكرية، مع تصاعد التوتر بين الإدارة الأميركية ورئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو بعدما أكد عبر فيديو نشره انتقد فيه حجب واشنطن شحنة أسلحة ثقيلة لصالح الاحتلال، على الرغم من الدعم الأمريكي العسكري المستمر، إلا أن نتنياهو مازال يصر على شحنة ذخائر تزن 2000 رطل (900 كلغ)، في رسالة مباشرة منه لتمسكه بخياراته العسكرية باستمرار الحرب في غزة، وفتح جبهات جديدة في الشمال، في وقت حصار نتنياهو السياسي يشتد، من جيشه خاصة بعد حل مجلس الحرب، ومن الحليف الأمريكي، ومن قبل عائلات الرهائن في تل أبيب.
ما يبدو واضحاً أن يوم ما بعد الحرب لا يمكنه إلا أن يمر عبر الامتحان الأخلاقي والسياسي، أولاً لعدم قدرة إسرائيل على إدارة سياسة واضحة تضمن إطلاق المحتجزين وحماية المدنيين في غزة، وثانياً وهو الأهم نتائج خياراتها العسكرية، والتي كانت كارثية على سكان قطاع غزة، وعلى المؤسسات الدولية، والمنظمات الحقوقية، خاصة أن الاحتلال الإسرائيلي لا يملك حتى الآن تصوراً لليوم التالي لما بعد الحرب حتى الآن، هذا الاستمرار يدفع ثمنه أهالي غزة، ولا يمكن اعتباره صموداً بقدر ماهو محاولة لتجاوز الموت، ولربما هذا أعمق ما حققته القضية الفلسطينية على حساب دماء نسائها وأطفالها من جهة، والغطرسة الإسرائيلية من جهة، حيث بات من غير الممكن إعادة بناء صورة إسرائيل خارج صورتها الاحتلالية، خاصة بعد الوعي الجمعيّ الذي راكمته مشاهد المجازر والإبادة، مهما كانت نتائج هذه الحرب، واحتمالات نهايتها.
أنتجت هذه المادة بدعم من “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” التي تشرف عليها فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية. المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.