تتوفّر شروط هامّة لإمكانيّة خلق مسار لإحداث اختراق حقيقيّ على الساحة الفلسطينيّة الداخليّة، وإن كانت عوائق كبرى تتحدّى المبادرة الوطنيّة الجديدة.

المبادرة الجديدة هي ذلك النداء الوطنيّ الّذي أطلقه عدد كبير من الفلسطينيّين، ذوي التاريخ النضاليّ الطويل، وذوي الخلفيّات الثقافيّة والفكريّة، التحرّريّة، تحت شعار “نداء فلسطين من أجل قيادة فلسطينيّة موحّدة” في نهاية شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، على هامش الدورة الثانية لمنتدى فلسطين، الّذي عقد في الدوحة. هي مبادرة غير فصائليّة، بل مستقلّة شعبيّة، وإن كان فيها من هو منتم لفصائل، ولكنّه مستقلّ في تفكيره.

وما يجعل هذا النداء واعدًا، هو المرونة والسرعة في التواصل مع المبادرات الوطنيّة الأخرى الأقدم، وانفتاح تلك المبادرات وتجاوبها مع هذا النداء. ومن تلك المبادرات، مؤتمر فلسطينيّ الخارج، ومؤتمر ال ١٤ مليون، وملتقى فلسطين وغيرها. وكلّها تلتقي، وإن تعدّدت الاجتهادات العقائديّة والمقاربات العمليّة، حول هدف واحد: توليد مرجعيّة سياسيّة وطنيّة فلسطينيّة كفاحيّة موحّدة، ديناميّة وعصريّة، في إطار منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وتخليصها من الحالة الرثّة الّتي أوصلتها إليها بيرقراطيّة متكلّسة، عدميّة وانهزاميّة.

عجّل في إطلاق المبادرة الجديدة، والتئام الكلّ المنضوي تحت نفس الهدف، الحدث الزلزاليّ الّذي تعيشه غزّة بشكل خاصّ، منذ تسعة أشهر، وفلسطين كلّها بشكل عامّ، سواء على مستوى الإنسانيّ الكارثيّ، أو مستوى الصمود الأسطوريّ للشعب والمقاومة، أو على مستوى ثورة الوعي المعرفيّة الّتي تجتاح المجتمعات في الغرب والعالم أجمع.

يدرك المبادرون فرادة اللحظة التاريخيّة، من حيث جسامة خطورتها، ومن حيث الفرص الّتي تنطوي عليها، لصالح قضيّة فلسطين والعدالة. لم يعد ممكنًا السكوت على حالة البلاهة والتبلّد والتمترس الّتي تسم سلوك فريق أوسلو، أو ما تبقّى منه، إزاء المقتلة المهولة، الّتي ينفّذها نظام الإبادة الصهيونيّ، والّتي تستهدف كلّ فلسطينيّ، المسالم والمقاوم، ليس فقط حقّه في تقرير المصير، بل حقّه في البقاء في أرضه وبيته، حقّه في الحياة، وهو ما لم يعد يخفيه هذا الكيان المتوحّش. انعدام المسؤوليّة التاريخيّة عند هذا الفريق وصل إلى مستوى فاضح.

هذا الفريق الأوسلويّ، رغم أنهار الدماء والدمار، لا يزال يرفض الوحدة، ويرفض الانتخابات، يرفض مغادرة مواقع العار، يرفض التخلّي عن موقعه المريح، ويبدي عنادًا لا يمكن فهمه إلّا من خلال تشريح البنية الطبقيّة والتبعيّة الّتي تشكّلت خلال ثلاثين عامًا من نهج معاد لأخلاقيّات التحرّر، وما يولّده من سلوك سيكولوجيّ واجتماعيّ أنانيّ ومشوّه، جماعيّ وفرديّ، بل يتصدّى المتنفّذون في النظام السياسيّ الفلسطينيّ المفلس، لكلّ مبادرة للإصلاح، وينعت أعضاءها بأقبح النعوت والأوصاف، مع أنّ الاستطلاعات تؤكّد وبصورة متتالية، أنّ نسبة تأييد لسلطة أوسلو، ومن يقف على رأسها وصلت إلى الحضيض، إذ تدنّت إلى أقلّ من 9٪؜.

لم يعد خافيًا أنّ السلطة مصابة بصدمة صمود المقاومة، وبصدمة حصول جبهات إسناد من حركات تضامن عربيّة، وبصدمة الانتشار الشعبيّ الكاسح لفكرة مواجهة الإبادة  ومواجهة الاستسلام. وبحسب المطّلعين على أوضاع السلطة الداخليّة كان هناك اعتقاد لديها، بأنّ مهمّة كسر صمود غزّة سيتحقّق في غضون شهر على الأكثر، وتكون الأرضيّة جاهزة لنسخ سلطة لحدّية ثانية في غزّة، فخاب أملها، ممّا يفسّر الإيغال في العناد والعدميّة.

في غياب أداة سياسيّة وطنيّة موحّدة ذات رؤية وطنيّة جامعة وسياسيّة واضحة، تنفرد القوى الإمبرياليّة الغربيّة المشاركة في حرب الإبادة، ومعها أنظمة عربيّة متعاونة أمنيًّا، في التخطيط السياسيّ لما بعد الحرب، ليس لفرض حلّ سياسيّ مقبول على الشعب الفلسطينيّ، أو تحقيق العدالة، بل لوأد الرغبة بالتحرر". وقمع صوت الضحيّة للأبد، ليجري بعدها تمرير تسوية تصفويّة هدفها إعادة تأهيل الكيان ليبقى قادرًا على مواصلة استعمار فلسطين، ومواصلة العبث بالمنطقة.

ينبع الأمل الجديد في هذه المبادرة، هو شموليّتها، وتحقّق الوفاق على استراتيجيّة العمل والبناء، والاتّفاق على آليّات التوسّع وحشد قاعدة اجتماعيّة واسعة. الأهمّ في هذه الاستراتيجيّة هو المقاربة التراكميّة، المتمثّلة في عقد الاجتماعات المناطقيّة، في الداخل والخارج، وصولًا إلى عقد مؤتمر أو مؤتمرين كبيرين في الداخل والخارج، وبلورة هيئات متخصّصة، شعبيّة ومهنيّة، لمواصلة العمل بعد المؤتمر في إطار خطّة لتوليد زخم متدرّج ومتصاعد.

من شأن هذا الحراك أن يوسّع ويعمّق الوعي بالمشروع التحرّريّ، وما يقتضيه من نهضة معرفيّة تحرّريّة حديثة، تتفاعل مع الحراكات التحرّريّة على مستوى العالم، وما تنتجه تلك الحراكات من زاد معرفيّ ووعي إنسانيّ متجدّد، يقوم على فهم مجدد لإسرائيل التي لا يمنعها نظامها من شن "حرب إبادة "، وعلى فهم قضيّة فلسطين كقضيّة تحرّر إنسانيّ لشعب تمّ السطو عليه دون سبب، وبالتوازي على فهم ارتباط قضيّة فلسطين بقضايا العدالة والمساواة والتحرّر في العالم أجمع.

مهمّ جدًّا أن تظلّ المبادرة وأطروحتها منسجمة مع قضايا التحرّر، والديمقراطيّة، ومحاربة الاستغلال والاستبداد أينما كان، تطوير التناغم مع خطاب التحرّر العالميّ الآخذ في التشكّل مجدّدًا. إنّها فرصة أمام الشعب الفلسطينيّ، وطلائعه المثقّفة والسياسيّة، للمساهمة معرفيًّا في الفكر التحرّريّ الكونيّ، وفي تشييد نظام عالميّ جديد أكثر عدالة وإنسانيّة.

كلّ ذلك مرهون بنجاح هذه المبادرة من خلال حشد كلّ الطاقات والكفاءات المعرفيّة، والخبرة النضاليّة والتنظيميّة المتوفّرة.

 

عن عرب 48

عوض عبد الفتاح

كاتب - صحافي والأمين العام السابق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي وأحد مؤسسي حملة "الدولة الديمقراطية الواحدة"

رأيك يهمنا