إنتاج المعرفة من خلال التاريخ المحكي
عادة يُكتب التاريخ من الأعلى للأسفل، ومعروف في المفهوم التقليديّ في كتابة التاريخ، أن من يَكتُب التاريخ هو المُنتصر، وأيضًا المهزوم. وكذلك المؤرخون/ات والباحثين/ات. قد يكتبون التاريخ من وجهة نظر شمولية، واسعة وبعيدة. تعود إلى أحداث صارت في الماضي. تعتمد كتابة التاريخ الشامل أو العالمي على تقنيّة مَنهجيّة بنيويّة زمانيًا ومكانيًا وجغرافيا.
من الجدير التشديد، على أن كاتب التاريخ هو بشريّ، والاحداث التي أرخَها خضعت لميوله وطبيعة فهمه وتحليله وقراءته للأحداث. وأيضًا انحيازه لأحد الأطراف. على حساب أطراف أخرى. وبالتالي كتبها كما رآها هو من وجهة نظره الشخصية. وقد يخفي في كتابته عمدًا معلومات تاريخيّة أخرى، ذات أهمية وقيمة في إكتمال الفسيفساء، بشأن الاحداث التي كتب عنها. أو ربما يتم المبالغة والتهويل لصالح طرف على الاخر. أو قد يعتمد في كتابته على جزئية من المراجع البحثيّة كالوثائق والمستندات الارشيفيّة العسكريّة فقط. وعليها يبني كتابته. بالتالي الموضوعيّة في الكتابة التاريخيّة ليست دائمًا حاضرة. بكل تأكيد لا تعميم على جميع المؤرخين/أت أو الادبيّات المكتوبة.
على سبيل المثال حرب عاميّ1947و1948 الذي انتصر بها المُحتل الصهيوني- الإسرائيلي. قد كتب تاريخه في ادبيّات التاريخ، واصفًا نفسه كبطل وقلّل من شأن خصمه وهو العربي-الفلسطيني. فبتالي من يكتُب التاريخ هو الذي يشكل الصورة عن الاخر. وأيضًا عندما نشاهد الأفلام الوثائقية التي سجلها اليهود بعد إحتلال فلسطين بسنوات قليلة، نشاهد روايّات شفوية من قائديها وضباطها يتحدثون كأبطال إنتصروا في الحرب على الفلسطينيون. فالفلسطيني في أفلامهم هو العدو المهزوم والإرهابيّ!.
لذلك نحن بحاجة لكتابة تاريخنا الفلسطينيّ أيضًا من الأسفل وهذا التاريخ يتعامل مع الحياة اليوميّة والاجتماعيّة للناس ويكتب سيّر المدن والناس من الأسفل وهذا النوع من التاريخ يُسمى التاريخ الاجتماعي. ويكتُب عن الناس العاديين وليس تاريخ القادة. الكتابة التاريخية بالعادة كما أسلفت آنفًا، تستند على مصادر أولية، هي الوثائق الارشيفيّة والمذكرات والرسائل والخرائط وأخرى. وهذه تأخذ من الأرشيفات والمؤسسات الرسمية. ولكن تبقى جهة غير رسميّة وهي مُغيبة ولها أهمية بالغة في كتابة التاريخ التي تكتب من الأسفل إلى الأعلى. وهذا النوع يُسمى التاريخ الشفوي. هو بالعادة يكشف ما لا تغطيه أو تقوله الارشيفات. فلذلك على سبيل المثال عددًا كبيرًا من المؤرخين الإسرائيليين الجُدد نجحوا في الكتابة عن تهجير الفلسطينيين عام 1948 من فلسطين فاستخدموا في كتابتهم المراجع الرسميّة التي ذكرت آنفًا فكتبوا صورة جزئيّة عن الاحداث التي جرت آنذاك. مع العلم انهم إعتبروا ما كتبوه هو الحقيقة المطلقة التي استخرجوها من الوثائق العسكريّة. لكن لو إستخدموا او لجئوا الى التاريخ السرديّ الشفويّ لاستطاعوا تقديم وصف ربما أصدق لما جرى وقتئذ. فالدراسة التاريخيّة لتاريخ فلسطين وبخاصة نكبة عام 1948 تحتاج عند الكتابة عنها الى الربط بين التاريخ والذاكرة والموضوعي والذاتي، لبناء تصور أشمل عن الاحداث التي جرت وقتئذ. منذ أكثر من ثلاثون عاماً تقريبا، بدأ الادراك يتوسع حول الكتابة عن الفلسطيني أي عن الانسان ومن الانسان الفلسطيني لا على فلسطين فقط. وهذا يعني تتبع منهج التاريخ الشفويّ وكتابة السيّر الذاتية وجمع الروايّات الشفويّة، التي لا تقل أهمية عن التاريخ المدون. الامر الأكثر شمولا في معرفة تاريخ المكان هو اجراء مقابلات مع كبار السن. للتعرف على تجاربهم الحياتيّة في السابق ومقارنة بالوقت الحالي. من خلالّ رواية التاريخ عبر سرديّات الناس " الميكرو ستوريا"، وهذا ما أوردته في كتابي حيفا في الذاكرة الشفويّة أحياء وبيوت وناس. إذ أردت أنْ أسلط الضوء على قصّة مدينة حيفا من زاوية مختلفة. وهو تاريخها من مخزون ذاكرة أهلها. فعلى سبيل المثال: في عدّة سرديّات سرَد الناس تجاربهم عندما تمكنوا من العودة إلى بيوتهم بعد انتهاء المعارك في عام 1948 . فوصفوا كيف وجدوها، بحالة نهب وتدمير وغزو. وجاء في سردهم أكثر تفاصيل بهذا الشأن. إذ سردوا من الذي استولى على البيت، وماذا فعلوا من أجل استرجاعه، وغيرها من السرديّات ذات التفاصيل الصغيرة والمهمة.
فكثير من الأحيان يعتمد التاريخ العام على شهادات القادة والأعيان التي كانت تُمثل السكان وأخص هنا مدينة حيفا، ففي الأدبيّات التاريخيّة الحيفاويّة منذ أعوام الانتداب إلى عام 1948 كان ثمة علاقات مباشرة بين القادة والأعيان العربيّة والقيادات اليهوديّة والبريطانيّة. فلقاءاتهم وحواراتهم مُدونة بكتب التاريخ والسياسة، ولكن صوت السُكان لم يُسمع على نحو علنيّ؛ إذ تمثل صوتهم بالأعيان والقادة. فهذه الروايات توضح التاريخ أكثر وتجعلنا نشعر ونعرف قصص الناس الفرديّة التي مرّوا بها إلى القصص الجمعيّة. ومن خلالها يصبح التاريخ ملموسًا ومؤنسَنًا. هدفي في كتابة التاريخ الشفويّ ملء الأماكن بلمسة إنسانية. وان تمنح هذه السرديات القارئ والقارئة شعورَ أن التاريخ حدثٌ حي ومليءٌ بمصائر إنسانية أصيلة. وأيضًا أردت من خلال بحثي أن افهم وأعرف كيف الناس عايشوا تلك الفترة وكيف عايشوها بعد ذلك. وهذه السرديّات اخذتها الى مساحات الكتابة على الورق. لنطلع ونعرف عن قريب تجارب الاخرين، وكيف عاشوا بحيفا ما قبل النكبة وما بعد النكبة.
عبرّ السرديّات الشفويّة الفرديّة الذاتيّة نستطيع أن نفهم حياة الناس وتجاربهم وتاريخهم في الماضي والحاضر، ونتعلّم عنها. فهذه السرديّات تُعرف في علم التاريخ بـ "ميكروستوريا" بمعنى التاريخ الجزئي، ذلك لأن تلك السرديّات تتعلّق بتفاصيل حياتيّة وجدانيّة ذاتيّة للفرد، كالعائلة، والأصدقاء، والشارع، والحارة وغيرها، من خلال سرد تجاربهم التي لم يحتضنها التاريخ الشامل؛ فالسرديّة الشفويّة تعتبر مصدرًا غير تقليديّ. وهذه السرديّات تُساهم في ملء الفراغات، وتستكمل الحلقات الناقصة في التأريخ التقليدي، وهو التاريخ المكتوب الذي يعتمد على سرد الحوادث بحسب تسلسل زمني تقليدي؛ فهو بالأصل وحدة أو حُقبة زمنية تتراوح بين حدّين ملحوظين لظاهرة معيّنة، يمثّلان بداية ونهاية لها. فالسرديّات تعتبر مصدرًا مهمًا لفهم التاريخ وتحليل مجرياته، وتُعدّ مصدرًا حيويًّا لكتابة التاريخ الشامل"الماكروستوريا" الذي يتعامل مع المجتمع ككلّ بصرف النظر عن تفاصيل الفرد الحيّاتيّة. وأما السرديّات الذاتيّة (الميكرو) فتُجسّد الاحداث بطريقة تاريخيّة معيشيّة.
في الصورة المرفقة من اليمين إلى اليسار: عصمت، الوالدة زهية، الوالد نور الدين العباسي وبتول.
روضة غنايم
من سكّان مدينة حيفا، وهي باحثة في التاريخ الاجتماعي والتاريخ الشفوي، وكاتبة مقالات في عدة منصات. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022