أن تكوني أمًا في زمن الحرب!

في السابع من أكتوبر كنت في طريقي إلى مدينة القدس الحبيبة لعمل، وكلي لهفة وشوق للقاء البلد وناسها. بعد عشر دقائق من السفر، سمعت صوت صافرة الإنذار يعلن عنه في الراديو ويخصّ بالذكر أهالي بلدي- باقة ويطلب منهم أخذ الحيطة والحذر، لم أصدق ما أسمعه وظننت أنني لم أسمع جيدًا. وقفت جانب الشارع مرعوبة، متصلة بأولادي الذين تركتهم بالملعب لمشاهدة مباراة كرة قدم، فأكدوا لي ما سمعت.

عُدت أدراجي محمّلة بأفكاري المشوشة وقلبي يسبقني للوصول إلى أولادي، حتى تلك الساعة لم أدرك حجم ما يحدث، لكن شعور الأمومة قادني حيث كانوا، وكانت غايتي الوصول إليهم واحتضانهم بين ضلوعي والهروب بهم إلى مكان اَمن ومحمي.

وصلت المكان، وكانت مشاعر الخوف والهلع تخيّم على المكان وعيون جميع الأطفال هناك تبحث عن الإجابات لكل ما سمعوا في لحظة من دوي انفجار وصافرات إنذار وأصوات ناس تصرخ وحياة تتغير. 

هذه العيون الصغيرة رافقتني منذ بدء الحرب، فعيون أولادي وعيون كل طفل كان موجودًا في الملعب وعيون أطفال غزة، جميعها تتبعني في كل مكان خلال كل هذه الفترة الثقيلة والقاسية.

لكم أن تتخيلوا، كيف ستعيش "أم" مع كل هذه العيون التي تنظر إليها وتستنجد، كيف لي أن أقوم كل صباح لأتعامل مع هذه العيون التي تطلب حبًا وحضنًا، تطلب مأوًى ومكانًا دافئًا، تطلب مني إجابات لأسئلة كثيرة وصعبة؟

العيون هي مرآة الروح التي تعكس لنا خبايا النفس وجميع مكنوناتها، ومشاعر الأمومة الطبيعية تهدينا فهم "لغة العيون" منذ البداية، لتكون دليلنا نحو التعامل مع أطفالنا وتوجيههم نحو طريق النمو والتطور المناسب والمريح. 

والاَن، كيف لنا أن نتعامل ونتعايش مع بريق العيون الخافت هذا؟!

هذه الحرب، جعلت بريق العيون يعيد صياغة مفهوم الوالدية، فالأمهات والاَباء، حسب معايشتي لكثرٍ منهم في الجلسات واللقاءات، باتوا يستعملون لغة العيون، فيبكون تعبيرًا عن الحزن والألم، ويسمحون للدموع أن تنهال أمام أطفالهم ليكونوا قدوة يُحتذى بها في التعبير عن مشاعرهم، جميع المشاعر بكل صدق وشفافية. 

في بداية الحرب كانت هذه الدموع الغزيرة، دموعًا مع كاتم صوت، ومؤشرًا على العجز وقلة الحيلة، فنحن الأهل لم نملك ما نفعل لأنفسنا ولأطفالنا ولأطفال شعبنا، وما أقساه من شعور!

رويدًا رويدًا أدرك غالبية الأهل أن الفترة ستطول وأن الوقوف بصلابة وعزيمة هو مطلب الساعة لا محالة، قمنا وضمدنا جروحنا لنكمل المسير. ومع الأيام، سمحنا لأنفسنا أن نتوقف وننظر عبر شباك الحزن، فنذرف دموعنا ونفتح ضمادة جرحنا لتنظيفه وتهوئته ثم نستمر رغم كل الألم. 

في كل مكان وزمان، كان أولادنا معنا، فكيف نتركهم لحرب تدوي بها أصوات الصافرات والانفجارات، ببيوت بدون ملاجئ، فكان الخوف سيد الموقف، خوفهم وخوفنا على أنفسنا وعليهم. عمل الأهل على التعامل مع مشاعر الخوف والقلق عند الأبناء، فمنحوهم الشرعية للتعبير عما يشعرون وقالوا لهم: "إن الخوف يساعدنا على إدراك الخطر والابتعاد عنه". 

من خلال عملي، عملت وعمل كثر من المختصين على نشر معلومات وآليات للتعامل مع المشاعر المختلفة وإعطائها مساحة للتعبير عنها لئلا تخنقنا وتعيق حركتنا. رغم ذلك، كانت مشاعر الخوف والقلق والتوتر سائدة ومسيطرة.

واستمرت الحرب وطالت المدة أكثر، وأكثر مما تخيلنا، فعيوننا رأت المزيد من المشاهد القاسية والصعبة وما زالت عيون الأطفال المذعورة تتبعنا، وتسألنا كيف سنتعامل مع الحرب هناك والعنف والجرائم هنا؟، فزادنا هذا كله مشاعر غضب وعصبية. 

لنا أن نتخيّل جميعًا، كيف يستطيع الأهل أن يعيشوا تحت وطأة هذه الحرب القاسية إلى جانب العبء الثقيل والمسؤوليات الجمّة في الحياة اليومية ومتطلباتها؟ 

نتوقف قليلا ونبتعد عن صخب ما يدور حولنا، ننظر في عيون أطفالنا الذين هم "روح الروح"، نحتضنهم بقوة ونقول لهم "معلش" ورغم كلّ ما يحدث نحبّ الحياة ونحبّ عيشَها وسنعمرها بقوتنا وعزيمتنا، فنرى بريق العيون يعود ويلمع بعض الشيء ليملأ أيامنا نورًا وسلاما.

وهكذا نحن الأهل، نتجول خلال النهار الواحد بين محطات المشاعر المختلفة- ننتقل من الحزن إلى الفرح، من الخوف إلى الشجاعة، من القهر والغضب إلى الحب، ومن الألم إلى أمل بمستقبل واعد وحياة كريمة.   

رباب قربي

مرشدة أهال متخصصة في مجال الوالدية، العائلة والجنسانية ومديرة مركز "محطات"

شاركونا رأيكن.م