سرديّة نِضال وَعَدت نفسي أن أَرويها لِحَفيدتي

بالجهود تَتحقق الوعود، كما تَحقق، مثلًا وليس حصرًا، وعد بلفور الذي أُطلق منذ مئة وسبعة أعوام، 1917-2024، وبالجُهود العالميّة المكثّفة والحثيثة تَحقق وتمخّض عن قيام دولة اسرائيل عام 1948، واعتراف جمعيّة الأمم المتحدة التي كانت تحظى آنذاك بقَبول دوليّ شامل.

تَواصلت الجهود، وفَرضت إسرائيل نظام حكم عسكريّ، ظاهريّ وباطنيّ، غَرَست أوتادها عميقَا في أرض فلسطين، وحقّقت انتصارات عسكرية على العرب توالت بعدها إنجازاتها العديدة في مسار تحقيق مشروعها على مرّ العقود، ولكي تَضمن خلودها لم توفّر أيًا من أدوات البطش والقتل والتهجير والتزوير…

نعم يا صغيرتي، دُمِّرت القرى والمدن فوق رؤوس أصحابها، وتدفّقت هجرات اليهود من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين لاستبدال أهل البلاد بالقادمين الجدد، ولم تكن كتدفّق مياه الخير في الأنهر، وإنما كالجرف يقتلع كلّ ما يصادفه. فصودرت الأراضي، وتم شراء أخرى إما بالاحتيال أو التراضي، ولم تتوقّف هذه الهجرات منذ قيام الدولة. 

رُسّخ في أذهان الشعوب والحكومات العربية أن قدرة اسرائيل خارقة وعصيّة على الكَسر، خاصة بإنجازاتها المهولة في إنتاج النكبة والنكسة وغيرهما، ناسين أو متناسين عَظَمة الجهود العالمية التي ولّدتها ولا تزال تحتضنها، فوقَع الكثيرون والكثيرات في شِباك وَهْم العظمة هذا ومنهم مَن تحالف معه، ومعًا بطشوا بالمقاومين والمقاومات، المتصدّين والمتصدّيات، ونجحوا بتحجيم أثرهم للحدّ الذي يثبط عزائم قسم كبير من أبناء وبنات البلاد الأصلييّن الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما الموت وإما قبول الأمر الواقع، الذي سمّي لاحقًا بالمواطَنة الصالحة والتطبيع.  

في عام 1967، اعتمدت إسرائيل نهج العصا والجزرة، نَهجٌ، يا حبيبتي، مُستوحى من صورة حِمار عُلّقت أمامه جزرة لتحفيزه على المشي، فإذا ما توقّف الحمار عن السير باغتته العصا بضربة ترغمه على المضي نحو الطريق المرسوم له! أي أنه في ذلك العام أنهت إسرائيل، ظاهريًا، نظام الحُكم العسكري الذي فرضته على من بقي من الفلسطينيين في أراضيهم بعد النكبة، واختلف المشهد الذي أَلِفَته الجماهير حتى تلك اللحظة، حيث انتهت القيود المفروضة على التنقّل داخل حدود إسرائيل، وتعطّفَت الأخيرة على الفلسطينيين، ببعض الفتات المسمى "حقوقًا مدنيّة"، دون أن تُفلت عصا- الحكم العسكري الباطنيّ- من يدها.  

نعم، لن أتردد في أن أروي لحفيدتي قصّة حزينة، أليمة فيها من الخسارات والحسرة ما اعتقدنا أنه سيهدِمنا، لأن ثقتي بأنها ستختلط بمَوروثي وقوة بلادي وثرائها وجمالها، كما عَظَمتها، لتعطي لروايتي شمولية الحياة التي لولا ألمها ومقاومته لما أدركنا روعتها ولذتها وعلوها.

سأروي لحفيدتي أن نهج العصا والجزرة لم ينطلِ على كافة أبناء شعبنا، كما لم يقبلوا بالاختيار بين الموت والطاعة، سأحدثها عن نضالات أبناء شعبي الجَبار منذ نكبته الأولى والتي استمرت عقودًا، سأخبرها أن كُثرًا هنّ وهم، من ارتقين وارتقوا وهم يدافعون بصدورهم العارية عن أراضيهم ومنازلهم وكرامتهم، مرابطات ومرابطين عند مقدساتهم، وعن من وافتهم/ن المنيّة قدرًا وهم متشبّثون بأقلامهم الحرة التي تركت لنا إرثًا نستنير به. إرثًا لم ولن تمحوه حملات التضليل والتشويه، سأحدثُها عن أجداد وجدات نقلوا الوقائع من جيل إلى جيل متحدّين كيّ الوعي الممنهج الذي رامَ محو ذاكرتنا الجمعيّة. إلا أنني لن أجمّل لحفيدتي الواقع الذي، للأسف الشديد، صَبغ المشهد العام رويدًا رويدًا، رغم كلّ تلك النضالات والتضحيات. سأخبرها كيف تغلغل الخوف والعجز والشعور بالهزيمة واللا جدوى في أذهان جموع ليست قليلة، كيف تغلغل بيننا ومزّق صفوفنا وبدّل عقيدتنا وأرسى مفاهيم، أقل ما يمكن وَصفها بالخبيثة، وسأشرح لها عن تلك الأساليب المقيتة التي عَمِلت على ترويضنا وتخديرنا، سواء كان ذلك على مستوى الداخل الفلسطيني أو العالم العربي.

سأقول لها، يا صغيرتي لقد اندمج مَن اندمج، ونسّق من نسّق مع إسرائيل، تعالَت بيننا شعارات نضالية جوفاء صَدحت بضرورة النضال من أجل المساواة، لنبدأ مرحلة أكثر خطورة، مرحلة الانتصارات الوهميّة. قَبِلنا بالفُتات. كِرامًا على موائد اللئام بتنا.  

لولا الإدراك لما عرَف الإنسان ما يحلّ به من خسارة أو نجاح أو خيبة. لكن الإدراك هذا لم يكن من نصيب الأغلبية من أبنائنا وبناتنا. المهم أن خيباتنا توالت، غيّبنا هويتنا وفقدنا الأمل في النهوض الجماعي، وهذا أكبر انكساراتنا. ذهب كلّ لتحقيق إنجازاته الفردية أو الفئوية ومصالحه الضيقة كما علّموه وروّضوه، ظنًا منه أن ما يسمى بالدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط هي قَدَر.. وباتت الجموع تكرر ما أرادوا لها أن تكرر حدّ تذويته، وأصحبت تخاطب بعضها: "مش عاجبك روح عيش بالدول العربية".. وصدّقوا الكذبة.

سأحدثها كيف تقزّمت، رويدًا رويدًا، نضالاتنا الشعبية وانحسرت بمظاهرة هُنا ووقفة احتجاجية هناك. إضرابات عامة لم تؤت أكُلَها، ومع شيوع شبكات التواصل الاجتماعي بتنا نكتفي بالتعبير عن امتعاضنا، ورفضنا، واحتجاجنا على ما يمارَس ضدّنا من تمييز ومصادرة أراضٍ، واعتقال نشيطات ونشطاء. بتنا نتسابق ونتفنن بالجمل الرنّانة على الشبكات ونوهم أنفسنا ببطولات وهمية. وكلّ منّا، وحيد/ة في البيوت الدافئة خلف الشاشات الرقمية. أما الدولة الديموقراطية فتركت لنا هذه المساحة لننبح ونعوي على راحتنا في صحراء خاوية. اكتفينا بالتعبير، وهلّلنا لهذا الحق وتعاملنا معه، واهمين، كإنجاز لنضالاتنا وصمودنا. وترسخ في أذهان الكثيرين منّا أن هناك ما يمكن التعويل عليه في العلاقة مع إسرائيل الديموقراطية.

بينما كنّا غارقين في أوهام قوتنا المتمثّلة في جرأتنا على التعبير وصراخ ممثلي جماهيرنا من على منصات البرلمان من ناحية، والتهاء كلّ منّا في تطوره وإنجازاته الفردية، كان مجتمعنا يغرق شيئًا فشيئًا في آفات لم نلتفت لها إلا بعد استفحالها ووصولها حدّ أنها باتت تهدد كلًّا منّا.. فعلت أصواتنا مرّة أخرى بالأدوات نفسها التي سمحت إسرائيل الديموقراطية لنا باستخدامها...

أغشيةٌ سميكة أعمت عيوننا عن حقيقة أن ما نقوم به مجرّد فقاعات صوتيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع... وما تسمح به الدولة الديموقراطية مجرد إلهاء لغرائزنا لا ينال من سطوتها على عقولنا وسَحقها الممنهج لهويتنا الجمعية، وهي أعتى سلاح يسيطر بواسطته كلّ نظام مستبد.

إلى أن أتى تشرين الثاني من عام 2023، وكَشف الليث عن أنيابه معيدًا كلًّا منّا إلى حجمه وموقعه المرسوم له مسبقًا، واضعًا العلاقة المتخيّلة بين الشعب الأصلاني والدولة في نصابها.

لم يرُق للدولة الديمقراطية أن نتألم للمجازر التي انهالت على أهلنا في غزّة، فاستعادت الفُتات الذي سبق وألقته على موائدنا، وأعادت إلى أذهاننا مَشاهد الحكم العسكري بفرضها إجراءات عقابية، وتكميم أفواه، وملاحقات، واعتقالات، ومنع احتجاجات، وطرد من العمل، والقائمة تطول.

طالنا ما طالنا من عنف الدولة، طالنا جميعًا، دون استثناء. رأينا مُصاب مَن والاها كمُصاب من عاداها. لم يَغفر الولاء والتزلّف والانخراط والاندماج لمن اختار هذا المسلك وعوّل عليه. كما لم يَغفر للمعتكف اعتكافه والصامت صمته، ومن نافل القول إن الأمر سيّان على أعناق المناضلين والمناضلات الجذريّين.

إلا أن أهم ما تبدّل منذ تشرين هو سقوط الرهانات على جدوى اعتناق الأسرلة دينًا والتملّق للدولة اليهودية، وإتاحة الفرصة أمامنا لإعادة النظر في ما اعتقدنا أنها نضالات بينما هي، في غالبيّتها، تخدير للنفس. ظاهرها دغدغة للأنا وباطنها تخلٍّ عن الهوية الجمعيّة.

حفيدتي، لحين ولادتك، أتمنى أن أحمل لك في جعبتي قصصًا جديدة عن إنجازات تنبئ بمستقبل أجمل.. 

 من يدري! لعل حصاد 2024 يكون بداية تأمل صادق وجريء في حالنا. تأمُّل يسعفنا على الخروج من حالة الخدر، وإعادة تشكيل وعينا الجمعيّ وتصويب بوصلتنا نحو التضافر، نحو تكافل في عائلاتنا ومجتمعنا، صحوة وتبصّر يذكّرنا أن مصيرنا واحد، وسلامتنا من سلامة محيطنا وبلداتنا ومجتمعنا. 

نسرين طبري

الناشطة السياسية والنسوية ومديرة كيان - تنظيم نسوي

فتحيه طبري
حتى لاننسى
الأحد 1 كانون الأول 2024
رأيك يهمنا