يَسوع الثائِر، وأَنا

كنت في السادسة من عمري عندما عايَشت الظُلم أوّلَ مرّة، وعَرفت معنى أن تكون ضحية.

مرّت ثلاثون عامًا على ذلك اليوم المشؤوم عندما تلقّيت صفعتي الأولى من معلّمتي في الصف الأول. صفعة لا يزال وجهي يستطيع استرجاع ألَمِها، وقد عَلّمَت بأصابعها الخمسة على خدّي بالقدر الكافي لتلاحظه أمي عند عودتي إلى المنزل. أذكر أنني لم أُبد أيّ ردة فعل على الصفعة سوى سؤال واحد انبثق من بين شفتيّ ببلاهة: "ليش؟" سألتها، لأصدم بالردّ: "لأنك وقحة".

 حتى اليوم لا أعلم ما الذي "توقْحَنت" فيه، لكن أذكُر جيدًا دفترًا للغة العربية سطّرت أطرافه باليدّ وليس بالمسطرة، وكان كفيلًا بأن "تُكْسَر شوكتي" وأُهان.

في اليوم التالي جاءت أمي إلى المدرسة لتبحث عن المعلمة التي تركت تلك الإهانة الحمراء على وجه ابنتها البكر، لكن المعلّمة أقنعتها أنني أنا المُذنبة لأنني "مدّيت إلها لساني".

في ظل حماية أمي تملّكت الشجاعة لأول مرة لأدافع عن نفسي وأقول: "مِش صحّ ما مديتلك لساني"، فقالت لي المعلمة: "تكذبيش!! مديتيه جوات ثمك (داخل فمك) “!!. لم أفهم التهمة، ولكن أمي اقتنعت. وُبّخت للمرة الثانية، أغلَقَت الاثنتان الملف، و"تلبّسته" أنا.

قَضَت المعلّمة باقي السنة التعليمية وهي تتفنّن في تعذيبي؛ تارة تتجاهلني وتارة ترمي باتجاهي ملاحظات مستهزئة ومهينة، ولولا أنها متأكّدة أنها لن تستطيع تبرير تعنيفي جسديًا مرة أخرى، لكانت تمادت أكثر.

في نهاية السنة كنت قد تعلّمت الدرس: في موازين القوى غير العادلة، عندما تكونين أنت الطّرف الأضعف، الأجدر بك أن لا تقاومي ولا تعارضي، فلَن يهرع لنجدتك أحد، عليك بالصمت وأبداء أقلّ ردّ فعل، عسى أن تمرّ الأزمة بأقل الخسائر.

كرِهْت المعلمة، لأنني علمت أن هذا هو الشيء الوحيد الذي لن أعاقب بسببه، فليس لأحد سلطة على مشاعري، وقد استمتعت بذلك الشعور جيدًا. كنت أتخيّلها بمخيلة طفلة لم تبلغ السادسة، تارة تَسقط من أعلى الدّرج "كَرْفَتة"، وتارة تأكل شيئًا حارًا فتبدأ بالسعال لتقفز عيناها من مَحجَرهما، وتارة تجلس على الكرسي فينكسر بها لتقع أرضًا، تمامًا كما يحدث للأشرار في مسلسلات الكرتون، وفي كلّ الحالات دائمًا ما كان يضحك عليها الجميع وتُهان، ربما لأنني في داخلي كنت لا أزال أؤمن بتعويض العدالة الإلهية عن ظُلم هذا العالم.

توفيت معلمتي بعد سنوات قليلة، كنت لا أزال في المرحلة الابتدائية، حَزن الجميع، لكن أنا لم أحزن، قلت: "أكرهها" فقالوا لي: "عيب عليك، لقد ماتت قولي الله يرحمها".

 بحثت عن الرحمة في قلبي، لم أجدها، أظنها دُفنت تحت جبال من الكراهية شكّلتها سنة كاملة من الشعور بالظلم والقهر وقلّة الحيلة.

أمرّ يوميًّا بجانب تمثال المسيح المصلوب في رُدهة المدرسة، انظر إليه، أتساءل: لماذا رضي المسيح أن يُصلب هكذا؟ أليس هنالك طريق أقل ألمًا وعذابًا لخلاص البشرية؟ لماذا لا ينتَفض من على الصليب ليركُل كلّ المشاركين في تعذيبه؟

 "حبيبي يا يسوع لو كُنت معك كنت ضربتهم كلهم شَلوط جبتهن بجهنم، مكُنتش بخليهم يعملو فيك هيك. كيف قبلتلهم أنت وسكتت؟  متأسفة يا يسوع، بس إللي عملتو مش عاجبني". أقولها وأمضي، متلذِّذة في اختراع مواقف جديدة تتعذب فيها معلمتي.

في حصة الدين تقول لنا المعلمة: "قال المسيح مَن ضربك على خدّك الأيمن أَدر له الأيسر". أتجمّد في مَكاني، أرتعب، هل كان عليّ أن أدير للمعلمة خدّي الآخر لتصفعه؟ ألا تكفيها صفعة واحدة تبعتها أيام طويلة من الإهانة.  "لأ!!" أفكر بصوت مرتفع فتسمعني المعلمة، وتوبّخني مرّة أخرى.

بعد ذلك، كثيرة هي المواقف التي تعايشت فيها مع الشعور بكوني ضحية، عندما سَحَقني ميزان القوة غير العادل، ففهمت سريعًا كيف تسير أمور الحياة ورضيت بالأمر الواقع.

لكن كأنّ هذا الرضى أشعَل في داخلي بركانًا من نوع آخر، لم أع وجوده إلا عندما بدأت أتلذذ بوصف المتمادين عَليّ بأنني "وقحة"، وقد كانت "وقاحتي" هي وسيلتي الأولى لمواجهة من حاول انتهاك كرامَتي والحدّ من حريتي والتسلط عَليّ وأهانتي وتعنيفي. وفهمت بعدها أن "وقاحتي" هذه إنما هي بدايةُ لِحُمى بركان الثورة في داخلي التي بدأت تتهاوى يمينًا ويسارًا كلّما كبُرت وفهِمت أن قوّتي تتنامى يومًا بعد يوم. وأن اليوم الذي لن أكون مجبرة فيه على تقبل الأمر الواقع، والذي سأقلب فيه الموازين أصبح أقرب من أيّ وقت مضى.

مع مرور السنوات، فهِمت أنني لم أعد ابنة الستة أعوام. أَصبَحت حرّة التفكير وردّ الفعل والغضب وحتى الانتقام. تحوّلت إلى إنسانة ترفض أن تلعب دور الضحية الضعيفة التي تنتظر مَن يُنجدها.  نبذت ذلك الشعور بقلّة الحيلة والغضب المتراكم لأزوّد نفسي بوسائل الدفاع عن النفس- الاتكال على النفس، الاستقلالية المادية، تطوير مجالات العمل، وطبعًا لا يخلو الأمر من لسان حادّ وقدرة على المواجهة حينما يتطلّب الأمر، واستعمال كلّ الوسائل الشرعية المتاحة لضمان الأمان لنفسي وعائلتي.

أعلَم طبعًا أن الانسان لا يخرُج من كلّ معاركه منتصرًا، لكن يكفيني شرف محاولات التصدّي للظلم والدفاع عن نفسي وأحبائي، لأنني أعلم جيدًا أنني لن أستطيع أن أتعايش مع نفسي لو لم أفعل.

عندما فهمت تحوّلاتي النفسية وأسبابها، وسبب تقديسي مفهوم الحرية ومحاربة الظلم، أصبحت جميع مواقفي في الحياة متشابهة، وفهمت أن الشخصي يعكس المجتمعي والسياسي.

وفهمت أن الانسان الذي تعايش مع الظلم وأتقن دور الضحية وأنغمس فيه حتى آخره، لا يستطيع أن يتفهَّم أنسانًا آخرَ مستعدًا لأن يدفع أغلى الأثمان من أجل حرّيته وكرامته. وليس هذا فقط، بل إنه يهاجم ويُذَنِّب كل من يحاول قلب موازين القوة وخَلع دور الضحية، محاولًا بذلك تغطية ضعفه وقلة حيلته متذرعًا بالظروف.

الحقيقة هي أن كلًا منّا كانت ضحيّة للظلم يومًا ما، ولكن قليلين استطاعوا انتشال أنفسهم من تلك البئر ليعيدوا هيكلة ذاتهم من جديد.

أسترجع كلمات الراحل أمل دنقل: "المجد لمن قال لا، بوجه من قالوا نعم !!!" ...

صورة سبارتكوس معلّقًا بناجي المارين تُعيدني طفلة في حصّة الدين المسيحي، أتخيّل نفسي أقلب الإنجيل مرة أخرى، أبحث عن منفذ من أن أعطي معلّمتي خدّي الأيسر لتصفَعَني ثانية ... لتقع عيني على صورة الغضب المقدس –

  13" وكانَ فِصحُ اليَهود قَريباً، فصَعِدَ يسوعُ إِلى أُورَشَليم، 14 فوَجَدَ في الهَيكَلِ باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين. 15 فَصَنَعَ مِجلَداً مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعاً مِنَ الهَيكَلِ مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم، 16 وقالَ لِباعَةِ الحَمام: ((اِرفَعوا هذا مِن ههُنا، ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة)). – يوحنا 2:13-25.

أبتسم، "يسوع كمان بِشبهني، هو كمان متمرد بحبّش الظُلم".

أرى نفسي في ردهة المدرسة ثانية، أقترب من جموع الورود تحت الصليب، انحني، أصلي لكي يساعدني الرب على محبّة الغير وعلى منحي القدرة على المسامحة لأعيش بسلام داخلي، ولكن أيضًا لأن يمدّني بالقوة لكي أثور ضد الظلم والطغاة.

آمين.

حنان مرجية

محامية ومحاضرة وناشطة نسوية مختصة في قضايا النساء والعمل

رأيك يهمنا