الإعلام الفلسطيني في اختبار الحَرب
هل يهتم القارئ بمعلومة تفيد بأن عدد الإصابات في الحرب وَصَل إلى 100 ألف؟ أم بقصّة سيّدَة وَلَدت طفلها بعملية قيصرية واضطرت لمغادرة المستشفى مشيًا رغم جُروحها؟ ثُم للوقوف في طوابير لتتمكن من دخول الحمام؟
كشفت الحرب عن مشاكل كبيرة يعاني منها الإعلام الفلسطيني، هي موجودة أصلًا لكنها أصبحت أكثر عُريًا، وأكبر تأثيرًا على الهدف الذي تسعى وسائل الإعلام لتحقيقه، والمُتمثّل بـ "إيصال المعلومة". وواجه الإعلام الفلسطيني تحدّيات تتعلق بِبُنيته، وتدخّلات وسائل التواصل الاجتماعي، ودَور الصحافي ومقدار حرّيته.
إن إيصال المعلومة هو العنصر الأهم، فالأصل في الصحافة أن "تُعْلِمَ الناس بما يحصل"، لكن بما أن وسائل الإعلام قلّما توصل هذه الرسالة دون أن تمرّر سياستها أو قناعاتها أو إيديولوجيتها، تعرّض هذا الهدف للتشويه، وبالتالي أصبح المتلقّي بدلًا مِن تلقّي الرسالة مجردة، يتلقاها بعد أن تمت قَولَبتها، فلا يَبني رأيه بشكل مستقل، ولا يأخذ قراره بموضوعية ولا يقرر مصيره.
وتقسم عملية الاتصال والتواصل هذه إلى المُرِسل: (القناة أو وسيلة الإعلام)، والمستقبِل، ومضمون الرسالة. بالنسبة للمُرسِل، تابع الجمهور الفلسطيني وسائل الإعلام العربية المدعومة مِن هنا ومِن هناك، وركّزت كل وسيلة على تطورات الحرب بما يؤيد وجهة نظرها، دافعةً المتلقي للإيمان بما تؤمن به، وبإمكانها أن تخلق رأيًا عامًا أو انقسامًا في الآراء. وهنا يُذكر أن وسائل الإعلام المحليّة لا تخلو من دعم -على أصعدة عدّة- من هنا أو هناك إلّا ما ندر.
أما بخصوص المُستقبِل، فينقسم الجمهور الفلسطيني إلى أقسام عدّة، فإما أن يكون واعيًا تجاه الأهداف التي تبثها كلّ قناة، وبالتالي يكوّن وجهة نظر شاملة يستطيع من خلالها الاقتراب من الحقيقة، أو أن يكون عاطفيًا وبالتالي سهل التأثّر بهذه المضامين، أو أن يكون غير مهتم إلا بما يؤثّر على حياته اليومية.
وأخيرًا المضمون: اضطرت العديد من وسائل الإعلام -التزامًا بأولويات "الكتابة الإخبارية"- لجعل خَبَر يطغى على حساب الآخر. فمثلًا، كانت أخبار الدمار الهائل في قطاع غزة، تَطغى على أخبار هدم البيوت في القدس، واقتحامات المسجد الأقصى والتضييق على المصليّن، واعتداءات المستوطنين في الضفة، وسوء حال الحواجز وأخبار الأسرى أيضًا. في الوقت ذاته، طغت أخبار لبنان على غزة خاصة أول أيام التصعيد. حتى أن "المضامين التحليلية" المتعلقة بخَبر لبنان، طغت على "الأخبار المعلوماتية" المتعلقة بغزة.
من المشاكل الأخرى التي أثرت على المضمون نوعيّةُ الضيوف الذين تتواصل معهم وسائل الإعلام.
فهناك بعض الشخصيّات الرسمية وغير الرسمية لا تتواصل مع بعض القنوات، وبعض الشخصيّات ترفض الظهور الإعلامي أصلًا، وبعض الناطقين الإعلاميين والمسؤولين الذين لا يَنطقون، وإن نَطقوا فإنهم كمن لم ينطقوا؛ أي لا يقدّمون معلومة، بل يكرّرون شعارات يراها البعض مهترئة. أصبح البديل لدى العديد من وسائل الإعلام هو اللجوء إلى التحليل السياسي، لكن لهذا مناقبه، فالمحلل السياسي القوي هو القارئ الباحث الذي يمكنه تخيّل كل السيناريوهات.
كما تقف الصحافة التقليدية أمام تحدّيات أكبر، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي.
معلومات غير دقيقة في وسائل التواصل الاجتماعي
برزت مشكلة كبرى تتعلّق بتناقل الأخبار عن طريق مجموعات "واتساب"، لا هي صحافية ولا هي موثوقة مثل "جروب أبو فلان". غالبًا ما تكون هذه الأخبار كاذبة أو مزيَّفة، لكنها تؤثر في الحياة اليومية للمواطنين (مثلًا كانت حركة المرور عَبر حاجز قلنديا موضوعًا انتشرت بخصوصه العديد من الإشاعات).آذى المتلقي نفسه هنا عندما همّش الدور الصحافي، الذي عليه أن يتحقق من كل معلومة تصل له. هذا بالإضافة إلى دور هذه المنصات في تَضخيم الأحداث، والتأثير المباشر على مشاعر الناس.
حرية الصحافة وأنسنة المضمون
تعرض العديد من الصحافيين للاعتقال، ما عرّض "أحد أجزاء عملية الإرسال" إلى التأثُّر، ولا بد أن بعض الصحافيين مارسوا "الرقابة الذاتية" على أنفسهم، خشية الاعتقال. وهذا من أخطر أنواع الرقابة التي تقيّد حرية الصحافة حول العالم.
في الوقت ذاته، اعتمد العديد من الصحافيين على الأرقام والنسب والأماكن في كتابة مضامينهم الإخبارية، لكن تفردت قلة قليلة من وسائل الإعلام في محاكاة الجانب الإنساني، وهو أهم جانب يجب تغطيته. مثلًا هل يهتم القارئ أو المشاهد أو المستمع بمعلومة تفيد بوصول عدد الإصابات إلى 100 ألف؟ أم بقصة سيّدة وَلَدت طفلها بعمليّة قيصرية واضّطرت لمغادرة المستشفى مشيًا رغم جروحها، والوقوف في طوابير لتتمكن مِن دخول الحَمّام؟ المعلومة الثانية بالطبع، هي التي تخلق الوعي.
ما الحل؟
وجود المزيد من وسائل الإعلام المستقلة التي تقدم الخَبر بأكثر الأَشكال موضوعية قدر الإمكان، وأن يكون التنافس بينها في فكرة تحقيق الموضوعيّة والبُعد عن الإيديولوجية، لا العكس، الأمر الذي يصعب تحقيقه لارتباط المال في الغالب بتوجُّه ما يسعى لتعزيزه.
على الصحافي أن يهتم بالجانب الإنساني من الرواية الإخبارية، ويبحث دومًا عن معلومات جديدة ولا يكتفي بنقل الأخبار، وهنا على وسائل الإعلام أن تخصّص مواردها لتمكين الصحافي مهنيًا ونفسيًا وماديًا وتعليميًا إلى أقصى حدّ، كيف لا وهو يمثّل السلطة الرابعة؟ فكيف يُمكن للصحافي أن يستخدم سلطته بأقصى إمكانية إن لم تزوّده وسيلة الإعلام التي يعمل بها بكل الأدوات التي يحتاجها؟
على وسائل الإعلام التقليدية أن تجدد في أساليبها على مستويات عدّة، منها الصحافية ومنها التسويقية ومنها التكنولوجية وحتى الإدارية، لتتمكن من تحدي التغيرات الحاصلة.
كما يتحمل الجمهور نفسه جزءًا مِن المسؤولية ليزيد وعيه بيديه عند التعامل مع المضامين الإخبارية؛ أي أن يرجح العقل على العاطفة، وأن يجري بحثًا صغيرًا إن استطاع. ومن الضرورة أن تتحمل الأطراف الرسمية وغير الرسمية المعنيّة بالتعليم والثقافة مسؤوليتها لتعزيز ذلك عند المتلقي.
وأضعف الإيمان أن تكون هناك مؤسسات دوليّة فاعلة في الميدان لدعم حقوق الصحافيين.