فَضْفَضَة أخصائيّة نفسيّة تَعيشُ الحرب...
لم أعلم يوما أنني سأواجه تحدّيًا في مهنتي كهذا التّحدي.
فمنذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وأنا أُصارع في داخلي بين مشاعري البشريّة وإدراكي المسؤوليةَ الّتي تفرضها عليّ مهنتي كأخصائية نفسيّة. فمسئوليتي المهنيّة جعلتني أُدرك أن ّ دوري في هذه الظروف سيزداد، وأنّني يجب أن أكون على استعداد لأيّ توجّه سواءً كان جماعيًا أو فرديًا. ومنذ ذلك اليوم، بدَأَت رحلتي المهنيّة تُتَصوّر بشكل مُختلف عمّا عهدته. فهنا "أنا" بأَثقالها المختبئة تُصغي لِ "هو" و"هي" و"هم". وليست أيّ أثقال، إنّها مشترَكة بيني وبينهم. لذلك، أَجِدني في كلّ مرّة، أحاول خَلق مساحة لي، أحرّر فيها مشاعري وأفكاري لأستطيع الفصل بين "أنا" البشريّة و"أنا" الأخصائية. وفي كلّ مرّة كُنت أنتهي من استشارةٍ لشخصٍ ما أو إرشادٍ لمجموعةٍ ما أو بناء برنامجٍ علاجيّ، ينتابني شعور بالقوّة والضّعف معًا. فأقع بين سؤالين: هل أنا على ما يرام؟ وهل أستطيع الاستمرار؟
كَم من المرّات الّتي كان يشتدّ فيها القصف ويزداد عدد الضّحايا وتُرتكب بحقّهم أبشع صور القتل، كنت أجِد نفسي لا تستطيع الذّهاب للعمل وممارسته؟؟! أجدني في حالة انهيار مُعلن، فلا أستطيع النّهوض من مكاني. أنهار بالبكاء فأُغلق على نفسي حتّى لا أرى الضوء، فأجده ينبعث من داخلي لأنهض من جديد. منذ ذلك اليوم، كم من المرّات لُمْتُ نفسي على اختيار هذه المهنة اللّعينة الّتي تجعلني ألبس قناعًا فولاذيًا حتى أستطيع سماع المحتاجين مساحةَ إصغاء ودعمهم، ليصبّوا غضبهم وخوفهم في مساحتي فيمضون مرتاحين ولو قليلًا من حملٍ أَثْقَلهم. لم أصفّها باللّعينة يوماً، فأنا اخترت مهنتي وما زلتُ أختارها، لكنّها منذ ذلك اليوم باتت ثقيلةً بقوانينها الماديّة.
ناهيك عن واجبات الأم الّتي تسعى لطمأنة أبنائها بأنها معهم في كلّ الأحوال، وأنهم سيجتازون هذا الوضع المجنون معًا. فالأسرة هي ملاذنا حين نكون مُثقلين.
بعد مرور سنة وأكثر على الحرب وتصعيد التّحديّات عندَ كلّ فردٍ فينا، خَلُصتُ إلى أنّ أنسبَ ما نفعله هو أن نُشرعن مخاوفنا وقلقنا كما يُشرعن أولئك القادة الحربَ ويعطونها ذرائع لاستمرارها. وأمّا أنا، فأشرعن لنفسي أن أخاف وأغضب وأحزن واكتَئِب لحظات، وأغلقُ على نفسي لأمنع ضوء الخارج أن يتسرّب إلى مساحتي حتّى أشعره بداخلي، ليزيد قلبي وعقلي إشعاعًا وإشراقًا بعد أن أجد ضالّتي. أيقنتُ، أنّه كي أستطيع إعطاء من يتوجّهون إليّ فرصة أن يعيشوا مخاوفهم وقلقهم وأن يستشعروا صُعوباتهم للنهوض من جديد ومواجهة الواقع، عليّ أولًا أن أتخلّى عن أنا الأخصائية وأن أُعطي لنفسي الشّرعيّة بذلك.
فقبل أن أكون أخصائيّة نفسيّة، أنا بشريّة عليها أن تُحرر مشاعرها لتتحرر.
جهاد إغبارية إرشيد
أخصائية نفسية، محاضرة، مدربة ذهنيّة للرياضيين ومرشدة والديّة