سوريا والفلسطينيّون – قِصّة حُبّ سَمّمها نِظام الأَسَد
قِصة علاقة سوريا بفلسطين والفلسطينيين هي طويلة وممتدّة إلى آلاف السنين، فيها كانت فِلسطين أو أجزاء منها جزءًا من سوريا أو على الأقل امتدادًا جغرافيًّا عضويًّا لها، ولم تَنْفَض تلك العلاقة وتصل إلى حالة انقطاع وتوتّر دائم سوى في فترة حكم الأَسَد الأب وخَلَفه الابن، حيث أوصلها هذا النظام إلى حالة صدام رسمي وشعبي مع الشعب الفلسطيني وقياداته، بما في ذلك تلك التي فرّت لاجئة إلى الشام في عامي النكبة (1948) والنكسة (1967) وما تخلّلهما أو لحق بهما.
إذا ركّزنا عَرضَنا على العصر الحديث، عَصر ما بَعد الإمبراطورية العثمانية- وهذا لا ينتقص أبدًا من أهمية ما سبق ذلك لكنّه مُهم في سياق التركيز على والوصول إلى العقود الأخيرة- فإننا نستطيع القول إن ولادة الكيانين السوري والفلسطيني، وتأسيس القُطرين، الفلسطيني والسوري، ومن ثم الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية السورية كما عرَفناهما منذ الحرب العالمية الأولى، كانا نتيجة تفاعلات حصلت في دمشق والشام وألقت بمفاعيلها على القدس ويافا. فمع نهاية الحرب العالمية الأولى، ودخول الجيش العربي إلى القدس وإلى دمشق أعلَن فيصل بن الحسين، شريف مكة، عن تأسيس الدولة العربيّة الحديثة، بمعنى حقّ العرب في تقرير المصير بصفتهم مجموعة قومية، لا دينية كما كان في العصور الأَقدم. وعمليًّا هلّلت النخب العربية عمومًا، والفلسطينية منها تحديدًا، لهذا التطوّر التاريخي، وكان في جيش فيصل وفي حاشيته وطاقمه الإداري فلسطينيون كُثُر، عُرف منهم تحديدًا روحي عبد الهادي، الذي ولد في جنين وعاد إلى حيفا بعد طَرد الملك فيصل من دمشق على يد الفرنسيين بعد معركة ميسلون (تموز/ يوليو 1920)، وساهم في إقامة حزب الاستقلال الفلسطيني.
آنذاك، كان الفصل بين سورية وفلسطين كما نعرفهما اليوم تكتيكيًا، أتى بفعل الاستعمارين البريطاني والفرنسي وخططهما لتقسيم المشرق العربي، إلا أن ذلك الفصل الذي حدّدته اتفاقيات المستعمرين هو الأساس لولادة الدولة العربية الوطنية في المشرق العربي وتحديدًا سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، ولحقت بهم إمارة شرق الأردن التي شُكّلت كذلك بإرادة استعمارية عام 1921. تلك الخريطة التي قسَّمت المَشرق العربي هي التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وأصبَحَ القَبول التكتيكي قبل قرن ونيّف أساسًا استراتيجيًا ثابتًا على امتداد القرن الأخير، شوّشته إسرائيل وسياساتها أحيانًا، إلا أن الأصل هو ذلك التصوّر الذي يسيطر على خيالنا عندما نتذكر خارطة الدول في المنطقة.
فلسطينيًّا، الُقرب مِن سوريا والبُعد عنها حَكَمه الوُجدان والعواطف القوية بشأن كون فلسطين جزءًا مِن سوريا التاريخية، أو كَما يُقال "جنوب سوريا" إلا أن هذه العلاقة تأثّرت كثيرًا بتطورات الصراع العربي العام والفلسطيني الخاصّ مع إسرائيل. ولعلّ أهمّ مفاصل تلك العلاقة هو الإصرار البريطاني على فَصل فلسطين عن المنطقة ووعدهم لنُشطاء صهاينة بوطن يهودي فيها، مما استدعى آنذاك نشاطًا فلسطينيًّا خاصًّا طالب بحقّ تَقرير مصير فلسطيني بداياته كانت في المؤتمر الوطني الفلسطيني الثالث الذي عقد في حيفا ربيع عام 1921. شكّلت هذه الفترة البدايات الواضحة للوعي الوطني الفلسطيني كما عَرفناه مُنذ القرن الماضي، مع حركات صعود وهبوط بحَسب المتغيّرات الفاعلة.
كانت النّكبة وما تبِعها من لجوء فلسطيني إلى سوريا المستقلّة حديثًا عن الانتداب الفرنسي من مُحدّدات العلاقة التي تشكّلت بعد ذلك بين سوريا وفلسطين، بين السوريين والفلسطينيين. وصَلت أعداد اللاجئين إلى سوريا من فلسطين إلى نحو 85 ألفًا، سَكَن غالبيّتهم في أطراف المُدن وشَكّلوا بَعد ذلك ما سُمّي بمخيمات اللجوء، ووجد بعضهم مَكانَهُ في المُدن السورية على طول الجغرافيا السورية وعرضها. في تلك السَنوات التأسيسية كان استقبال الفلسطينيين الرسميّ والشعبي لافتًا في إيجابيته، خصوصًا في ضوء تجارب اللجوء الأخرى. شَعبيًّا تم استقبال اللاجئين بالكثير مِن التِرحاب الشعبي، ورسميًّا كانت السياسات مُنفتحة وإيجابية ومشجِّعة من حيث إمكانيات السَكَن والعمل والانخراط في الحياة العامة، بحيث أنه وُلدت علاقة تبادلية إيجابية بين المستويات الشعبية والرسمية من الطرفين، السوري والفلسطيني، وهو ما بدأ يتغيّر تدريجيًّا مع صُعود حافظ الأَسَد لرأس السُلطة في سوريا عام 1971.
مع نهاية العقد السادس من القرن الماضي بدأت تتشكّل مَلامح سيطرة حركة فتح ورئيسها ياسر عرفات على القرار السياسي الفلسطيني وقيادة منظمة التحرير، وتبنّيها فكرةَ "استقلالية القرار" الوطني الفلسطيني، خصوصًا في ضوء هزيمة حزيران/ يونيو 1967، التي كان لحافظ الأَسَد وزير الدفاع السوري آنذاك حِصّة مركزّية فيها. إلا أن الأَسَد الذي نفّذ ما سُمّي "الثورة التصحيحيّة" ووصوله إلى رأس الهرَم السياسي في سوريا رَفَض تلك المقولة متعلّلًا بفكرة العروبة وكون فلسطين قضية عربية لا تحتمل الفصل أو القرار الخاص بها، مما شكّل ركنًا مهمًّا في حالة توتر دائمة مع الفلسطينيين عمومًا والقيادة الفلسطينية بشكل خاصّ. ومما لا شك فيه هو أن نظام الأَسَد استعمَل القضية الفلسطينية (واللبنانية) لأجل ترسيخ سيطرته وشرعيّة حكمه، وخصوصًا بعد وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973 والالتزام الواضح من قبل نظام الأَسَد بالحفاظ على الهدوء في الجولان وعلى طول الحدود الفاصلة في الجولان. كانَت حرب أكتوبر هي آخر الحروب العربية-الإسرائيلية الشاملة، وكما هو معروف فإنها مهّدت لزيارة السادات لإسرائيل وإبرام اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية.
خلال السبعينات من القرن الماضي، ونتيجة إصرار نظام الأَسَد على التحكم بالفلسطينيين وتوجهاتهم السياسية، وصلت التوتّرات بين سوريا والفلسطينيين أوجها، وخصوصًا بعد دخول الجيش السوري لبنانَ على أثر قرار عربي أجاز له ذلك بحجّة الحفاظ على الأمن والاستقرار بعد اندلاع شرارة الحرب الأهليّة هناك. في لبنان تحالَف الأَسَد مع "القوات اللبنانية" المسيحية من جهة، وحزب أمل الشيعيّ من جهة أخرى وحاربَ بضراوةٍ الجبهة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك مِن خلال استخدام "جيش التحرير الفلسطيني" كميليشيا تابعة. حاصرت قوات الأَسَد والميليشيات المُتحالفة مَعَها مُخيّم تل الزعتر (1976) وقامت بعمليات عسكرية واستخباراتية لضَرب من عارضها، وعلى رأسهم القوات اليساريّة الوطنية اللبنانية وياسر عرفات والقيادة الفلسطينية، إلى حين الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وإجبار القوات الفلسطينية والقيادات على الرحيل عن بيروت، ومِن ثُمّ دعم نظام الأَسَد تياراتٍ فلسطينية مُنشَقّة والانشقاق عن منظمة التحرير وحتى محاربة الفلسطينيين في منطقة طرابلس في الشمال اللبناني. أدّت هذه التطوّرات إلى توترات جدّية بين النظام السوري واللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان، تداخَلت مع تحدّي تَغوّل النظام البعثي ضد السوريين عمومًا، بما يشمل الفلسطينيين، في المخيمات وخارجها.
وصلت التوترات أوجَها بَعد خِلافة بَشّار الأَسَد الحُكمَ مِن أبيه، فبعد مرحلة أوّلية بدا خلالها وكأنّ بشار الأَسَد ينوي إجراء تغييرات باتجاه أكثر انفتاحًا على السوريين، تغيّرت التوجّهات وتعمّق القَمع والتّنكيل بالمعارضين، وصولًا إلى ثورة السوريين المدنيّة السلميّة المطالِبة بانتقال ديمقراطي بداية عام 2011، وفي سياق ما سُمي بـ "الربيع العربي". كان القَمع الرّسمي للتحرك الشعبي ضد النظام وحشيًّا إلى أبعد الحدود وتخلّلته تدخّلات إيرانية ولميليشيات "حزب الله" بهدف تثبيت حليفهم الأَسَد بالسلطة مِن جهة وإجراء تغيير ديمغرافي استهدف الأكثرية السنيّة في سوريا، بما في ذلك الفلسطينيين من جهة أخرى. كان القَتل على الهوية والاستهداف لبلدات وأحياء كاملة لكونها سنيّة، بما في ذلك مِن خلال إلقاء براميلَ متفجّرة على الناس وقيام الطيران الروسي بحملة إبادة لمربعات سكنيّة كاملة في سوريا. دفع السوريون أثمانًا باهظة من حيث قتل نحو 400 ألف شخص، وتَهجير نحو عشرة ملايين مِن بيوتهم غالبيتهم إلى خارج سوريا وتهديم بيوتهم وبلداتهم.
كان للفلسطينيين في سوريا دور مهمّ في مظاهرات الاحتجاج والمطالَبة بتغيير النظام ودفعوا أثمانًا كما غيرهم من السوريين. يكفي أن نُلفت الانتباه إلى أنّه عشية الثورة الشعبية عام 2011 كان عدد اللاجئين في سوريا نحو 600 ألف، والإحصائيات الأخيرة تفيد بأن عددهم اليوم نحو 50 ألفًا؛ أي أن من اعتبروا لاجئين فلسطينيين قُتلوا وشُردّوا واعُتقلوا وغُيّبوا وغادروا في غالبيتهم الساحقة، وشخصيًّا التقيت مع الكثيرين منهم في تركيا وأوروبا وكندا والولايات المتحدة. قضى نظام الأَسَد بشكل متوحّش على حقّ السوريين بالحياة الكريمة، وأصاب الفلسطينيين هناك بما لا يقلّ عن باقي السوريين.
علاقة الحب والاحترام والوفاق التي تشكّلت بعد وصول اللاجئين إلى سوريا عام 1948 وبعدها على مرّ السنين، وصولًا إلى النكسة عام 1967 واللجوء خلالها وبعدها، تغيّرت بشكل ثوري مع وصول الأَسَد الأب إلى سدّة الحكم وعلاقته المتوتّرة مع القيادة الفلسطينية، بما يشمل القيادات والنشطاء في سوريا. وَضَعَ الأَسَد الأب- وبسبب ادعاءاته القومية وتطلعاته لاستعمال فلسطين والفلسطينيين في سياق كسبه الشرعيّةَ في سوريا وخارجها- السّم في تلك العلاقة وجَعَلها متوجّسة ومتردّدة ومبنية على الخوف والتبعيّة في أحسن الأحوال. ورث الأَسَد الابن كلّ ذلك التاريخ من التوترات والعلاقة المتنازعة مع الفلسطينيين وقياداتهم، وأضاف إليها مُركّبًا جوهريًّا، البطش باللاجئين وحواضنهم في سوريا، كما بباقي السوريين، وتحويل العلاقة مع الفلسطينيين وعموم المواطنين إلى علاقة صفريّة مبنيّة على الولاء التام والتبعيّة أو الإقصاء مِن سوريا أو مِن الحياة أو مِن الحقّ بالحرية، وكلّها قضايا اختارها النظام وداعموه لأسباب متعلّقة بالسلطة والتسلّط وزرع أوهام دعم تحرير فلسطين والحرية.
أتت الممارسات كلّها في سياق محدَّد وبالإمكان تغييرها، بالإمكان الاستئناف عليها والعودة إلى علاقة صحيحة وغير متوتّرة، إلى حين العودة وإقامة كيان فلسطيني يحترم الفلسطينيين ويُدافع عنهم. تبقى بلدان اللجوء، وسوريا أولها، مكانًا يستطيع الفلسطينيون العيش فيه بكرامة وممارسة الحرّية، كما يستحقّ باقي السوريين. إننا نعيشُ لحظات الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي في سوريا، وللفلسطينيين هناك، مثل غيرهم حقّ التمتّع بهذا الانتقال، والمساهمة مِثل غيرهم، ومُعارضة توجّهات قمعيّة وتسلّطية قد تنشأ بسبب تعقيدات إرث النظام السابق وتحديات الانتقال نحو نظام ومجتمع ديمقراطي، إنها لحظات تأسيسيّة لعموم السوريين، كما للفلسطينيين.
ومَن تَرَكَ مِن الفلسطينيين، كما مِن السوريين، بسبب النظام البائد، عليه العودة أو على الأقل المساهمة في انتقال ديمقراطي سَلِس في سوريا، لكي تكون منارة لعموم الشّرق ومقدّمة لفلسطين الديمقراطية وبلد الحرّية كما نريد.
الصورة للرئيس السوري الاسبق حافظ الأسد اثناء اجتماع مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في 24 ابريل 1988، عن موقع المجلة.